أكتوبر المزيّف
الاحتفال بذكرى عبور أكتوبر 1973 جاء مختلفًا تمامًا هذا العام، إذ كنا بصدد نسخةٍ مزيفةٍ من سردية الحدث ومعانيه ومدلولاته السياسية، حيث الربط القبيح، المتعسّف، بين الانتصار على العدو الصهيوني في معركة تحرير الأرض والحرب على الإرهاب، بوصفها الاستثمار المربح، الوحيد، للنظام الحالي في مصر، ولغيره من كل المستبدّين والمطبّعين العرب.
الكلام عن الحرب على الإرهاب طغى على الرواية الحقيقية والمحترمة للحدث، حتى تكاد تشعر في لحظة معينة أن أكتوبر 1973 كانت واحدةً من جولات الحرب على الإرهاب، وبذلك تأتي هذه السردية على الهوى الإسرائيلي، حيث كل الجهود تتركّز على اختراع أعداء جدد، يحلّون محل العدو التاريخي والوحيد، الذي ينتقل إلى تصنيف الصديق والحليف والشريك.
هنا يتم حشر كلمة "الإخوان" والإسلام السياسي بشكل عام في الخطاب المنسكب من ميكروفونات الحفلة التي بالضرورة يجب أن يكون بطلها الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي لم يعرف في تاريخه الوظيفي حرب أكتوبر، أو أي حربٍ أخرى، باستثناء انتصاره المشين في موقعتي رابعة العدوية ونهضة مصر.
الجنرالات المتقاعدون الذين شاركوا في معركة أكتوبر، فيما كان السيسي لا يزال يحل مشكلاته مع شباب الحي الذي يسكنه، لم يفوّتوا الحفلة من دون وصلات نفاق مفتخرة تسند للسيسي أدوارًا لم يمارسها، ولم يكن حاضرها، في معركة أكتوبر، أو على هوامشها.
من هؤلاء جنرال الأوبرا وحفلات الصوت والضوء الترفيهية، اللواء سمير فرج، الذي ألَّف حكاية مضحكة عن بطولات الملازم أول عبد الفتاح السيسي، حكاية تناسب جو الحفل المبتذل الكبير، لم يكلف الراوي نفسه عناء ذكر التواريخ أو المناسبة التي وقعت فيها الأحداث، لكنها، على أي حال، تصلح هديةً مفتخرةً للجنرال الذي لم يحارب.
على شاشات التلفزة، جاءت كل اللقطات المركّبة على أغنيات أكتوبر الخالدة، لطرق وكباري وإنشاءات خرسانية، يفتتحها السيسي، بالإضافة إلى مشاهد من مسلسل "الاختيار" الذي ينسفون به الرواية التاريخية الصحيحة، ويؤلفون تاريخًا جديدًا على مقاس الجنرال، يظهر فيه المجرمون ضحايا وأبرياء، ويتحوّل الضحايا إلى مجرمين مُدانين، في تطبيق حرفي لقصيدة صلاح عبد الصبور عن زمن الحق الضائع، حيث لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله .. ورؤوس الناس على جثث الحيوانات، ورؤوس الحيوانات على جثث الناس.
لكنك قبل أن تتحسّس رأسك، كما ينصح صلاح عبد الصبور، يصعقك موقع الأهرام بخبر يقول: المتحدّث العسكري ينشر أغنية للفنان تامر حسني بمناسبة ذكرى أكتوبر المجيدة. .. ويبدو أن المتحدث العسكري الشاب لا يعلم أن المطرب الذي اختاروه للغناء لحرب أكتوبر هو نفسه الشخص الذي حوكم وسجن على جريمة التهرّب من أداء الخدمة العسكرية، وتزوير شهادة الخدمة، كما هو موثق في أرشيفات الصحافة المصرية والعربية في العام 2006، ودعني أنقل لك هنا بعض ما نشره موقع قناة العربية في سبتمبر/ أيلول 2006:
في الوقت الذي كان من المتوقع فيه الإفراج عن المطرب تامر حسني في الرابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بعد قبول الالتماس الذي قدّمه للمسؤولين لتخفيض العقوبة الموقعة عليه بالسجن عاما إلى ستة أشهر، تم أمس الخميس 14-9-2006، الإفراج عن تامر حسني. وعلى الفور ارتدى ملابس التجنيد، وجرى نقله إلى وحدة الشؤون المعنوية.
وبهذا يكون تامر قد لحق بزميله هيثم شاكر الذي أفرج عنه الشهر الماضي، وتسابقت وسائل الإعلام لتسجيل حوارات معه، إلا أن المسؤولين في وحدة الشؤون المعنوية أنذروه بإمكانية تعرّضه للمساءلة القانونية طبقا للأعراف العسكرية التي تمنع الحديث لوسائل الإعلام بدون الحصول على تصريح رسمي من القوات المسلحة.
وكان تامر حسني قد ألقي القبض عليه مطلع العام الحالي، ووجهت اليه تهمة تزوير شهادة قضاء الخدمة العسكرية وعاقبته المحكمة العسكرية بالسجن عاما، تم تخفيضه فيما بعد إلى ستة أشهر. بالإضافة إلى اتهامه بتزوير شهادة نجاحه في السنة الثالثة بكلية التجارة بجامعة المنصورة، وهي القضية التي حُكم عليه فيها بالسجن عاما مع وقف التنفيذ، حرصا على مستقبله.
لم يجدوا في مصر كلها سوى هذا المطرب، لتقديمه من خلال الصفحة الرسمية للقوات المسلحة باعتباره صوت انتصار أكتوبر العظيم، الذي يغنّي للجنرالات والجنود، بينما مشاهد الحرب على الإرهاب وبناء الكباري لا تغيب عن الصورة المصاحبة للأغنية.
هل هي الغفلة، أم هو تعمّد ابتذال الانتصار، وتفريغه من محتواه القومي والأخلاقي، ليضاف، هو الآخر، إلى قائمة مستلزمات صناعة تاريخ لجنرال بلا تاريخ عسكري، وإعادة هندسة الذكرى بما لا يُغضب الصديق الصهيوني للنظام الحاكم؟