أكذوبة المستعمر المدني المسلح
ما يجري في فلسطين المحتلة الآن معركة تحريرٍ بدأها شعبٌ يتآمر عليه العالم، حتى بعض أشقائه المفترضين صاروا ضدّه زاحفين ومهرولين لمشاركة العدو ومصادقته.
هي ليست نزهةً أو جولةً استعراضية لفصائل من المقاومة الفلسطينية قرّرت فجأة أن تشعل جبهة مواجهة بعض الوقت، ثم تعود إلى أماكنها.
هذا الفعل المباغت من شعبٍ واقع تحت الاحتلال المفروض عليه منذ أكثر من 70 عامًا، بتواطؤ دولي واضح، وجد حاضنة شعبية ممتدة بطول الخرائط العربية والإنسانية وعرضها، فشعر كل من ينتمي إلى هذه الأمة بأن المعركة الدائرة في الأرض المحتلة هي معركته. وبالتالي، لا مبالغة في القول إن الأمة كلها منخرطةٌ في حرب تحريرٍ منذ الصباح الباكر ليوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وتتواصل، فالمقاوم الفلسطيني يحارب هناك في الخطوط الأمامية، ومعه مئات ملايين الشعب العربي تخوض معه المعركة بقلوبها وألسنتها.
ومنهم من يخوض المعركة بطريقةٍ أخرى، مثل رجل الشرطة في مدينة الإسكندرية المصرية الذي فتح النار على مجموعة من المستعمرين الصهاينة يدنّسون الأراضي المصرية في ضيافة سلطة تطبيع وشراكة مع العدو، لا ضيافة شعبٍ يستعصي على مخطّطات التطبيع التي تحاصره منذ زمن أنور السادات.
اجترح الشرطي المصري عملًا كان ولا يزال في الوجدان الشعبي السليم بطولةً تغنّى بها الشعراء والمثقفون الوطنيون طوال الوقت، منذ زمن تنظيم ثورة مصر بقيادة محمود نور الدين وخالد جمال عبد الناصر، ثم الأبطال سليمان خاطر وأيمن حسن وسعد إدريس حلاوة في ثمانينيات القرن الماضي، وحتى الجندي الشاب محمد صلاح في شهر يونيو/ حزيران الماضي، والذي استلهمت المقاومة الفلسطينية ملحمته الأسطورية في التخطيط والإعداد لمعركة طوفان الأقصى التي انطلقت قبل يومين.
الموقف إذن، باختصار، أن المواطن الذي سرقوا أرضه وهدموا بيته وأحرقوا مقدّساته قرّر أن يدشّن مرحلة جديدة من كفاحه لتحرير أرضه من عصاباتٍ مسلحةٍ استولت عليها واستوطنتها، وهي عصاباتٌ مجلوبةٌ من بلادٍ غريبةٍ وبعيدة، انتظمت في شكل كيان محتل يسمّي نفسه "دولة" ويسلح أفراده بجميع أنواع الأسلحة لاقتلاع أصحاب الأرض الحقيقيين وابتلاع مزيدٍ من أراضي الوطن المسروق.
لهذا المواطن أشقاء في عديد الدول العربية، يتألمون لجرحه ويفرحون لفرحه، ويودّون لو أن الحدود الجغرافية أزيلت، ليكونوا هناك في الصفوف الأمامية، يحاربون معه اللصوص الأوغاد، فإذا ما لمحوا لصًا من هؤلاء يمرح في بلدانهم في تحدٍّ وقح لمشاعرهم ومعتقداتهم، ينتفضون ثأرًا لشقيقهم المظلوم.
القول إن الفلسطيني الذي احتلت أرضه وهدمت داره وأهينت مقدّساته يقتل مدنيين من مجتمع الاحتلال الصهيوني ساقط ووضيع، كونه يتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا ويتبنّى خطاب الأعداء، فالحاصل أن لا مدنيين هناك في مجتمع كامل يحيا على عقيدة قتل الأغيار واستباحة دمائهم وممتلكاتهم ووطنهم كله.. لا يكفي هنا أن تكون المجنّدة شقراء مسترسلة الشعر ترتدي أزياء شبابية حتى يصنّفها الدجّالون مدنية.
في مثل هذه الأوقات من العام الماضي، كان الاحتلال يشنّ عدوانًا على الشعب الفلسطيني في مدن الضفة الغربية وبلداتها، ويعتدي على المسجد الأقصى، فانتفض الفلسطينيون دفاعًا عن حياتهم ودورهم المسلوبة، فقرّرت سلطات الاحتلال دعوة المستوطنين الصهاينة، الذين يسمّيهم مواطنين، إلى حمل جميع أنواع الأسلحة ضد الشعب المقاوم. والترجمة الوحيدة لذلك الإجراء أن الاحتلال منح تصريحًا مفتوحًا لجميع الصهاينة بقتل الفلسطيني واستباحة دمه، من دون أن تكون هناك أدنى عقوبة على القاتل.
توالت، في تلك الأثناء، مشاهد الهجوم الهمجي على منازل الفلسطينيين، أصحاب الأرض، وممتلكاتهم، بالإضافة إلى دور العبادة والمقدّسات، فيما كان في الصفوف الأولى من المعتدين حاخاماتٌ وقيادات دينية وسياسية متطرّفة، ترقص وتهتف بالهلاك لعرب فلسطين وتستبيح قتلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
دفع هذا الأمر كاتبًا إسرائيليا، هو جلعاد غروسمان، إلى السخرية من النخب المنافقة التي تزعم إن صعود التيار المتطرّف بقيادة الصهيوني بن غفير يتناقض مع توجّهات إسرائيل كدولة، كون تاريخ الاحتلال الصهيوني كله يؤكّد أن أفكار بن غفير هي العقيدة الثابتة لإسرائيل، حكومة ومستوطنين، والتي عن طريقها نفّذت مشروعها الإحلالي بطرد الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم.
تساءلت وقتها تحت عنوان "مستعمر صهيوني ومدني، كيف؟"، وأكرّر ما قلته وقتها، إنه والحال كذلك لا يمكن، بأيٍّ من المقاييس العقلية والاعتبارات الأخلاقية والمنطقية، افتراض وجود مجتمع مدني إسرائيلي، إذ كل ما هنالك مجموعة من العسكريين المهووسين دينيًا، ومجموعة من المتديّنين المتطرفين المتعسكرين، ومجموعات من المستوطنين، هم خليط من اللوثة الدينية المتطرّفة والهوس العسكري القاتل، مطلوب منا أن نعتبرهم "مواطنين" طبيعيين في مجتمع بشري طبيعي داخل دولة طبيعية.
ومطلوبٌ كذلك، كما يريد أطفال أنابيب الابتزاز باسم التحضّر الزائف، التسليم بما تردّده الميديا الصهيونية في الغرب، وبعض النخب العربية المتصهينة، أن أية مقاومة لهذا الإرهاب الاستعماري المدجّج بالسلاح والمسلح بالأساطير التلمودية المتطرّفة تعد إرهابًا وعنفًا واعتداءً على مدنيين صهاينة.