ألمانيا: صناعة "الوحش" الروسي
تقف أوكرانيا أمام منعطفٍ حسّاس، مفترض أن يقرّر مصيرها عقوداً طويلة. كل ما يجري في هذه الأيام يسبق إعصاراً ما على وشك الهبوب، والاصطفافات لا بدّ منها. لا مكان للرمادية خلال الأيام المقبلة. إما أن تكون مع أوكرانيا أو مع روسيا. البريطانيون ينقلون ذخائر بالجملة إلى كييف، أبرزها منظومة "أن أل إيه دبليو" المحمولة على الكتف، والقادرة على مواجهة الدبابات الروسية. تؤدّي لندن هنا دور واشنطن في كابول في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين مرّر الأميركيون صواريخ ستينغر للمجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي، وضمنهم أنصار أسامة بن لادن. غيّرت تلك الصواريخ مجرى المعارك، وصولاً إلى تقهقر السوفييت، وعودتهم إلى بلادهم. ليس من الضرورة أن يتكرّر الأمر نفسه في أوكرانيا، ولكنه قد يتكرر أيضاً. الأميركيون ليسوا حاسمين، وافقوا على إرسال أسلحة إلى كييف، لكنهم قرّروا عدم التورّط عسكرياً، مع التلويح بفرض عقوبات قاسية على روسيا، على الرغم من الجلبة التي أحدثها تصريح الرئيس جو بايدن، مساء الأربعاء الماضي، بأن فرض العقوبات على روسيا مرتبط بمدى توغلها في الأراضي الأوكرانية. بمعنى آخر: إنْ توغّلتم متراً فستكون عقوبتكم أقل مما لو توغّلتم كيلومتراً.
وسط كل هذا تقف ألمانيا في مكان آخر. لا تهدد بتوقيف "نوردستريم 2"، الغاز الروسي الذي يموّن البلاد، خصوصاً حوض منطقة الرور الصناعية. وترفض بيع أسلحة، ولو دفاعية، إلى أوكرانيا. ولم تتمكّن، على الرغم من نفوذ أنجيلا ميركل سابقاً، من فرض اتفاقي "مينسك 1" و"مينسك 2" في عامي 2014 و2015 على أطراف القتال في الشرق الأوكراني. ومع سماع قرع طبول الحرب، يجلس الألمان على الضفة الأخرى من النهر، وكأن لا شيء يحصل بين البحر الأسود وأعلى البلطيق، حتى لو كانت وزيرة خارجيتهم، أنالينا بيربوك، تجول بين كييف وموسكو وبروكسل. تريد برلين الإيحاء بقدرتها على ممارسة دور وسطي، لكنها لن تنجح في ذلك، كونها محكومة بالغاز الروسي من جهة، وبالتاريخ الحديث من جهة أخرى. من حقّ ألمانيا التصرّف بما تراه مناسباً لوجودها حماية لشخصيتها الاقتصادية ـ الاجتماعية التي صنعتها في العقود الماضية، غير أن إثبات حضورها قوة وسطية فاعلة لم يعد يستلزم حراكاً دون المستوى، خصوصاً أن ميركل اعتادت، في أوقات كثيرة، أن تتواصل مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من دون مقدمات. وهو ما سهّل خلافاتٍ عديدة سابقاً.
التاريخ أكبر من مجرّد محطة ميدانية. ألمانيا صنعت هذا "الوحش" الروسي الرابض في الشرق. صنعته أفكار كارل ماركس في ثورةٍ بلشفيةٍ عاصفة، نقلت روسيا القيصرية المتقهقرة إلى اتحاد سوفييتي متوثب في حينه. أطعم أدولف هتلر هذا "الوحش" في حصار لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) وملحمة ستالينغراد (فولغوغراد حالياً) في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). ولم تسقط ألمانيا النازية سوى حين قرّر التلاميذ التمرّد والزحف إلى برلين في 1945. حتى أنه بعد تفكّك السوفييت في 1991، وعبور الوريثة روسيا تسعينيات مرعبة، كان لا بدّ من عودة ما لرأس هرم صلب، ولم يكن هناك أفضل من الجاسوس فلاديمير بوتين، المصنوع من أرحام ألمانيا الشرقية.
صحيحٌ أن الأفكار موروثات وتمازج أفكار سابقة مبنية على البيئة التي ننتمي إليها، مع كل عناصرها المناخية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية، إلا أن التأثير الألماني على السوفييت، ثم الروس، تجاوز أي تأثير مماثل لشعب على شعب آخر، ما لم يكن مُستعمراً منه. السلوك الروسي حالياً يشبه سلوكاً ألمانياً تقليدياً، مفعماً بالعنجهية والعنفوان، لا بالعقلية الحجرية المتصلّبة التي ميّزت الروس تاريخياً. بوتين يبدو ألمانياً أكثر منه روسياً، عكس ما كان عليه جوزف ستالين وفلاديمير لينين. وحين تطأ قدم أول جندي روسي أرض أوكرانيا قريباً ستدرك ألمانيا أي "وحشٍ" صنعت.