أمين معلوف و"لبناننا"
"انتخاب الفرنسي من أصل لبناني أمين معلوف أميناً عاماً دائماً للأكاديمية الفرنسية"، التي أسّسها الكاردينال ريشيليو في عام 1635، وتختص بكل ما يتعلق باللغة الفرنسية وآدابها. كان النبأ الذي تصدر أخبار أول من أمس الخميس. كانت لافتةً التهانئ من المستويات الرسمية اللبنانية لمعلوف، على اعتبار أنه لبناني، وأن "الفخر" يعتري هذه الأوساط. وطبعاً، لم تتأخر تلك الأدبيات في تضمين مصطلح "رفع علم أو اسم لبنان بالعالي"، عبارة يُراد منها الاعتزاز بالانتماء للبنان. تنتهي القصة هنا، أما بعدها، فإن هذا السياسي لا يأبه لما يعانيه اللبنانيون. ها هو يعرقل أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتصحيح أداء الدولة المالي، من دون تدبير بديلٍ ينتشل البلاد من أزمتها المتفاقمة. وها هو يستولد الخلافات في كل مرحلة، بغية إشاحة الأنظار عن كل ما يتعلق بمآسي اللبناني. وها هو يبحث عن ثغرةٍ للنجاة منها من أي محاسبةٍ دولية، على قاعدة أن لا محاسبة في الداخل ولا قصاصاً.
هذا هو "اللبنان" الحقيقي الذي نعيش فيه، لا لبنان أمين معلوف، وقبله جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وغيرهم كثر. ليس لبناننا سوى ما تبقى من أشلاء وطن مفتّت، يرمز إليه بيرق ممزّق فوق إدارات الدولة الرسمية. الناس فيه يعيشون كآلات تنتظر لحظة تعطّلها عن العمل. ولكثرة الأنباء السوداوية في هذه البلاد، عمدت إحدى وسائل الإعلام إلى تجاهل ذلك في نشراتها الإخبارية، والتركيز على القطاع السياحي، مع إبراز تقارير عن "جمال لبنان وطبيعته الخلّابة"، ودعوة المغتربين والسياح إلى القدوم إليه.
لبناننا حرائق غابات في الصيف، وسيول تملأ الطرقات الدولية في الشتاء وجبال نفايات على مدار السنة كلها. لبناننا ودائع مسروقة من الناس، وقطاع طبي يتدهور، وأخلاقيات منعدمةٌ تُخجل أخلاقيات أزمنة ما قبل الإنسان البدائي. لبناننا مشكلة مثلثّة: غموض الهوية وإشكالية العجز عن الانتماء وذهنية معاكسة لكل منطق التعاون بين أفراد ومجتمع. أما الأزمة الأساس في لبنان فليست متعلقة بنظام ودستور، بل حصراً بعقلية الفساد التشاركية بين أمراء الطوائف. أما القول إن مهارة اللبنانيين في الخارج، خصوصاً من غادر البلاد منذ عقود لا منذ بضع سنوات، "فريدة من نوعها"، ففي ذلك مغالاة لا منطق لها ولا تفكير سليماً.
اللبناني مثل أي إنسان على وجه الأرض، لا مُنزلاً من علٍ ولا مختاراً من أحد. هناك الناجح والفاشل فيه، شأنه شأن كل الشعوب. ومن يبدع في الخارج يبرع لأن دول الاغتراب قدّمت له المساحة الفعلية لترجمة أفكاره ومواهبه. ولو بقي المغتربون في لبنان، ومعهم أمين معلوف، لما كان أحدٌ ليعلم بهم، ولربما كانوا أفراداً منبوذين من سلطة وأنصارها. لو أراد معلوف البقاء في لبنان، لما كانت "صخرة طانيوس" ولا أكاديمية فرنسية ولا كان هناك تقديرٌ ثقافيٌّ لإنجازاته.
لا يُمكن إصلاح هذه البلاد بتكرار لازمة "رفع اسم لبنان بالعالي"، بل بالقانون والنظام. لا شيء غيرهما. هناك رؤوس يجدُر تحطيمها وذهنية تُدفن في ظلال التاريخ وعقلية تُطمس تحت ألف أرضٍ من كوكب النسيان. لا يحتاج اللبنانيون سوى للحظة وعي، وفهم أن مصاعبهم، وإن كانت متأتّية من طبقة تحكمهم، إلا أن جزءاً كبيراً منها من صنيعهم. في النهاية، السلطات، كل السلطات، منبثقة من أرحام هذا الشعب، لا من غيره. والأمل الأبدي في الهجرة ليس أبدياً. ربما سيأتي من الدول من يضع قيوداً على هجرة اللبنانيين مستقبلاً، ما يدفعهم إلى أن يتحولوا إلى آلات صمّاء كأسلافهم، أو يقرّرون تغيير ما هم قادرون على تغييره، ولو من أسفل لا من أعلى. يبدأ كل شيء بابتسامة صباحية، وبعدها سيُصبح النهار والليل والأيام الآتية حرّة من عَدَمٍ غير مطلوب، ومصدراً لتجدّد دواخل كل إنسان.