أم كلثوم ... المحارِبة أيضاً
تكتمل اليوم، 3 فبراير/ شباط، 48 عاما على وفاة أم كلثوم. وليس هذا مناسبةً، هنا، لإعادة كتابة الذي انكتب، عن فرادة الصوت الاستثنائي، قوةً وإدهاشا. وإنما مناسبةٌ لأمريْن: أولهما إشهار الغبطة بالباحث المصري الشاب، كريم جمال (1992)، وقد أنجز كتابا بالغ الإفادة والإمتاع، "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" (تنمية، القاهرة، 2022)، لو بدأتَ قراءَته لن تتهيّب من صفحاته الـ608، فالبساطةُ الضافيةُ في تتابع التفاصيل الشائقة فيه عن أم كلثوم وحفلاتها بعد هزيمة 1967، في مصر وخارجِها، ستشدّك، لا شكّ، إلى معلوماتٍ غزيرةٍ جدّا فيه، موثّقةٍ من مصادرِها المتنوّعة، أحاديث وتقارير تلفزيونية، أراشيف صحفٍ ومجلاتٍ مصريةٍ وعربية، كتبٍ ومقالات. وستصير على معرفةٍ أوْفى بكوكب الشرق، ليس فقط مغنيةً عظيمة الموهبة، إذ يأتي الكتاب على ما كانت تُحدِثه أم كلثوم من تنغيماتٍ وتغييراتٍ (وإضافاتٍ) في مقاطع وقفلاتٍ وجملٍ في أغنياتها في وصلاتٍ عديدة، وهذا ليس شاغلا مركزيا في الكتاب البديع، وإنما أيضا مغنيّةً صاحبة دورٍ وطنيٍّ ثقيلٍ، بعد الهزيمة المدوّية، وهي التي كانت تنتظر، بحماسٍ مفرِطٍ، انتصارا مصريا باهرا في المعركة، يجعلها تُخبِر مجلة الكواكب، كما نشرَت في عددها الصادر في يوم الهزيمة نفسه (6 يونيو/ حزيران)، إن حفلتها القادمة ستكون في تل أبيب.
وهنا الأمر الثاني الذي تتوسّله سطور هذه المقالة في ذكرى رحيل أم كلثوم، موجزُه أن الإشارات المبعثرة في مصادر متفرّقةٍ عن مساهمة سيدة الغناء (ليس العربي وحده) في دعم المجهود الحربي المصري بعد تلك الهزيمة لا يُلملمها كريم جمال، وإنما يورِدها في كتابه بأدقّ تفاصيل تفاصيلها، وبالمبالغ بمقاديرِها بالضبط (تماما)، وبكمّيات الذهب والحلي والمجوهرات (والسبائك) التي تبرّعت بها أم كلثوم أو عملت على جمعها. ويجيز المؤدّى في هذا كله وغيره الزّعم إن "الستّ" كانت محارِبةً حقّا، بعد النكسة، بالنظر إلى جهدٍ كبيرٍ حقّا أدّته، وروحٍ قتاليةٍ بدَت عليها وهي تنشط في جمع الجنيهات المصرية والعملة الصعبة من أجل معركة التحرير المنتظر بعد النكسة، وذلك في حفلاتها في محافظات مصر، وفي حفلاتها التي تتابعت، في باريس أولا، ثم المغرب والكويت وتونس والسودان والمملكة الليبية ولبنان، ثم رحلتها للغناء في موسكو، لكنها لم تغنّ، وقطعت الرحلة، لوفاة جمال عبد الناصر الذي شاركت في أداء صلاة الغائب على روحِه هناك، وأخيرا في أبوظبي.
تقرأ الكتاب، ثم تعرف أن أم كلثوم تبرّعت بثلاثة ملايين جنيه من أجل معركة ما بعد حزيران، وضخّت في الخزينة المصرية نصف مليون جنيه بالعملة الصعبة، من عائدات حفلاتها الخارجية، بعد أول مبلغ تبرّعت به، 20 ألف جنيه إسترليني، كانت قد تلقّته من الكويت مقابل بعض تسجيلاتها، عدا عن ذهبٍ ومجوهراتٍ منها ومما جمعتُه في إطار "هيئة التجمّع الوطني للمرأة المصرية" التي عملت على تشكيلها وتابعت أنشطتها، ثم لا تلْقى أن هذا أهم ما في الكتاب، وإنما التفاصيل والقصص والمفارقات والوقائع والطرائف الوفيرة فيه، فيُنبئك كثيرٌ من هذا بأن أم كلثوم ساهمت، إلى حدٍّ ما، بعد حزيران، في حماية الشخصية العربية من التسليم بالهزيمة قدرا، وفي صيانة الوجدان العربي، في ظروفٍ شديدة الحساسية، كان الإحباط من أهمّ عناوينها، وأيضا في ترميم علاقات مصر الرسمية مع بعض العرب، تونس بورقيبة مثلا. وللحقّ، يغشى قارئَ الكتاب شيءٌ من العطش لتلك الأنفاس العربية، بالروحيّة العالية الإحساس بالانتساب إلى قضية فلسطين والأمة، مثلا، إبّان حفلتي أم كلثوم في أبوظبي، عاما بعد وفاة عبد الناصر، ولتكون كوكب الشرق ممن حضروا رفع علم اتحاد دولة الإمارات. كما إن أبعادا ثقافية جوهرية يُخبر بها الكتاب، حيث أم كلثوم ضيفة الملك والرئيس والحاكم وضيفة الشعب في الوقت نفسه. وثمّة انتساب الشعوب العربية إلى فلسطين، وتطلّعها إلى دحر الاحتلال. ويُدهشك في أم كلثوم حرصها على التعرّف على فلكلورياتٍ وألحانٍ وأغنياتٍ في البلدان التي زارتها (المغرب وتونس خصوصا). ويدهشك إيمانها الكبير بالله جلّت قدرته، لمّا كانت الطائرة تتعرّض لمطبّات أو تواجه الضباب فيشيعُ الخوفُ في الركّاب، (كان المغاربة في استقبالها في الرباط إلا أن الطائرة اضطرّت للهبوط في الدار البيضاء).
كتاب كريم جمال ثريّ وممتع، من البلاهة إيجازُه، أضاءَ على أكثر من وجهٍ وصورةٍ لأم كلثوم، وعلى بعض فنّها ومقاطع من زمنها، وعلى روحها المحاربة المقاتلة من قبلُ ومن بعد.