أنقذوهم من هذا الحبّ القاسي
في يونيو/ حزيران من عام 1969، نشر الشاعر الشاب آنذاك، محمود درويش، مقالاً طويلاً في مجلة "الجديد" التي كان يُصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، بعنوان "أنقذونا من هذا الحب القاسي". حظي بشهرة مدوّية، وأعادت نشرَه مجلتا "الآداب" البيروتية و"الطليعة" القاهرية اليسارية، وما زال يتمتّع بأهمية استثنائية، ويكاد يكون الوحيد الذي يعرفه الجمهور من بين مئات المقالات التي كتبها درويش في حياته.
عليكُم، أيّها الأشقّاء العرب، أن تترفّقوا بنا، فنحن لسنا الأفضل شعرياً، ولسنا منفصلين عن الشعر العربي نفسه، ولا عن المجتمع المحلي الذي أنتجنا، فلا تبالغوا في المحبّة، فتلك تضرّ بنا وبكم. يكاد يكون هذا فحوى المقال الذي يُستعاد حالياً في سياق آخر، وهو التطبيع، فرغم أن درويش نشر مقاله آنذاك في مجلة إسرائيلية، وكان هو نفسُه يحمل الجنسية الإسرائيلية، فإنّ مقاله استُقبل بمحبة واحتفاء كبيريْن في بيروت والقاهرة وعواصم أخرى، كانت تفور من الغضب على خلفية هزيمة حزيران عام 1967، وتعلّق الآمال العراض على المقاومة الفلسطينية وأدوات تعبيرها، وأهمّها الشعر الذي كان درويش رأس الرمح فيه، فلم يُتّهم آنذاك بالتطبيع ولم تُطلق النداءات إلى مقاطعته، بل ظلّ يُستقبل كالأبطال حيثما حلّ. وما كتبه في مقاله كان يعني أن ثمّة مبالغة إيجابية، إذا شئت، في التلقي، وهي نتاج الحماسة والرغائبية، وهو ما وسَم الأداء العربي إزاء فلسطينيي الـ48، الذين يُطلق عليهم وصف عرب 48، أو عرب إسرائيل، الوصف المهين والذي يكاد يكون استشراقياً، خصوصاً أنّ هؤلاء هم أهل فلسطين الأصليون، وقد صمدوا في أرضهم وكافحوا وناضلوا للحفاظ على هويّتهم تحت الاحتلال، فما هاجروا وما وهنوا ولا هانوا.
غياب التقييم الواقعي والاستسلام للنزعات الشعبوية والشعاراتية أضرّ بفلسطينيي الـ48، تماماً مثل الاحتفاء المبالَغ فيه بهم، ذلك أنه حوّلهم إلى "موضوع" متخيّل، يتم تضخيمُه حيناً أو شيطنته أغلب الأحيان، من دون معرفةٍ حقيقيةٍ به، ما أدّى إلى إضعافهم، وفي ظنّ من يقوم بذلك أنه يدعم صمود الشعب الفلسطيني، فكيف تدعم الفلسطينيين في نضالهم لاسترداد حقوقهم وأرضهم وأنت تُقاطع فريقاً كبيراً منهم صمَد وصبَر وحافظ على هويته الوطنية داخل القلعة الإسرائيلية نفسها؟
ينضم لاعب من فلسطينيي الـ48 (مؤنس دبّور) إلى فريق كرة قدم إماراتي، وتضع قُرعة الملحق المؤهل لدوري أبطال آسيا هذا الفريق في مواجهة فريق الوحدات، والأخير فريق أردني يحمل اسم واحد من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، فتنطلق الدعوات وتتوحش إلى النادي بمقاطعة المباراة، باعتبارها تطبيعاً مع "العدو الصهيوني"، بسبب مشاركة اللاعب مؤنس دبّور الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وسبق له أن لعب في فرقٍ إسرائيلية، منها المنتخب الإسرائيلي لكرة القدم. لكن أصحاب هذه الدعوات، وكثيرهم من مشجّعي النادي نفسه، لم يقدّموا حيثيّات أخرى تدعم روايتهم عن التطبيع المحتمل، كما لم يقدّموا أي مقترحاتٍ لبقية فلسطينيي الـ48، ليتجنّبوا الحياة والعمل والتميّز والإبداع خارج المؤسّسات الإسرائيلية، حتى يصبح التعامل معهم خارج شبهة التطبيع الذي يحاربونه وتبحّ أصواتهم من الهتاف ضدّه، في الملاعب والندوات والمؤتمرات. كما أن هؤلاء يغفلون مواقف هذا اللاعب الذي أصبح اللعب معه أو ضدّه تطبيعاً، هذا إذا كانوا يعرفونها أصلاً، ومنها أن الشاب دخل في صراعٍ مريرٍ مع جمهور المنتخب الإسرائيلي، على خلفية موقفه الشجاع والمشرّف من مسيرة الأعلام الزرقاء في محيط المسجد الأقصى العام الماضي، وانتهى به الأمر إلى الاستقالة من المنتخب الإسرائيلي، وإعلان اعتزاله دولياً لأسبابٍ سياسيةٍ وقوميةٍ، تتمثل في إعلائه فلسطينيّته على أي اعتبار آخر حين يتعلق الأمر بالمسجد الأقصى والقدس، ورفضه الهتافات المهينة لفلسطينيي الـ48 في الملاعب الإسرائيلية. وكان واضحاً أكثر مما يجب، حين وضع صورة لقبّة الصخرة على صفحته في "فيسبوك" مع تعليق عليها بالآية القرآنية "ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون. إنما يؤخّرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار"، وهو ما أثار غضباً واسعاً ضدّه، ومطالبات بسحب منشوره والاعتذار عنه، لكنه رفض بشكل قاطع، وأعلن لاحقاً اعتزاله الدولي الذي يعني خروجه من المنتخب الإسرائيلي نهائياً.
هل شابٌّ هذا شأنُه يُقاطَع ويعتبر التعامل معه تطبيعاً؟ أنقذوه وأنقذوا أولئك الفلسطينيين من هذا الحبّ القاسي.