أنقرة تُصالِحُ دمشق في الوقت الضائع
قال الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الجمعة (12/7/2024)، إنّه أصدر توجيهات لوزير الخارجية هاكان فيدان للقاء رئيس النظام السوري بشّار الأسد، للبدء في استعادة العلاقات مع سورية، وذلك في مؤتمر صحافي عقب مشاركته في جلسة لـ"مجلس ناتو وأوكرانيا"، التي عقدت على هامش قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في واشنطن. يأتي ذلك بعد أن أكّد أردوغان، في أثناء عودته من برلين الأحد الماضي (7/7/2024)، ما قاله سابقاً بعد اجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أستانة، بشأن دعوته الأسد إلى لقائه، واستعادة العلاقات "العائلية" معه، داحضاً بذلك أيّ شكوك بشأن جدّية أنقرة في هذا المسار، مسار المصالحة هذا، الذي ترعاه موسكو وتتوسّط فيه بغداد، هو خطوة مُتقدّمة في مسار أستانة الروسي، وتطبيق اتّفاقات خفض التصعيد بين روسيا وتركيا وإيران.
التقارب بين الطرفَين حاصلٌ منذ عقود، وبرضا وفدَي النظام السوري والمعارضة المقيمة في إسطنبول، وتحديداً منذ دعم التَّحالف الدولي بقيادة الولايات المتّحدة الجماعات الكردية في شمال شرق سورية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما رافقه من طموحات كردية لإقامة حكم مُستقلّ يشارك فيه عناصر من حزب العمّال الكردستاني، ما يُشكل تهديداً أمنياً من وجهة نظر أنقرة. انعكس ذلك تغييراً في السياسة التركية عبر التخلّي عن دعم المعارضة لإطاحة نظام الأسد، وقبول تركيا الحلول الروسية عبر مساري أستانة وسوتشي، والتوافقات المرتبطة بها، ومنها تسليم مناطق في الداخل إلى النظام في مُقابل خضوع المناطق الحدودية شمالاً لسيطرة تركيا والفصائل المرتبطة بها، وصولاً إلى مسار اللجنة الدستورية سبيلاً وحيداً للحلّ السياسي بدلاً من القرارات الأممية.
ارتباك المعارضة السورية أمام التوجّه التركي الصريح إلى المصالحة مع النظام السوري
مرّ مسار التقارب في مراحلَ من الجمود، زاد منها انشغال روسيا في حربها ضدّ أوكرانيا، ومواجهة الحلف الغربي، وموقف تركيا، العضو في حلف الناتو، الحرج من هذه الحرب، والانتخابات الرئاسية التركية العام الماضي (2023) التي فاز فيها أردوغان بشقّ النفس، واضطر إلى حرف سياساته تقارباً مع السياسات الغربية وابتعاداً عن روسيا، ثمّ الحرب الإسرائيلية على غزّة عقب حادثة طوفان الأقصى. ما استجدَّ في الداخل التركي هو خسارة حزب العدالة والتنمية المدوّية في الانتخابات البلدية في إبريل/ نيسان الماضي في إسطنبول وأنقرة، مقابل تصدّر حزب الشعب المعارض. يضاف إلى ذلك استمرار الأزمات الاقتصادية، وتصاعد الانتهاكات ضدّ اللاجئين السوريين، وهو ما دفع أردوغان إلى البحث عن مخارج تُرضي قواعده الانتخابية. وخارجياً، هناك الحرب المُستمرّة على غزّة ومآلاتها، ومنها تقدّم نفوذ إيران الداعمة نظامَ الأسد في المنطقة، على أساس محور المقاومة، وما يقابله من دور عربي مُتصاعد يرتبط ببناء محور مواجه على أساس التطبيع مع الكيان الصهيوني، بدعم أميركي في مرحلة ما بعد غزّة، أي بعد الانتهاء من القضاء على الجناح العسكري لحركة حماس. وعلى هذا الأساس، تهافت العرب على استعادة دمشق من الحضن الإيراني إلى الحضن العربي. ولم تُثْبِت الوقائعُ أخيراً فشلَ هذا المسار فحسب، بل أثبتت حجم السيطرة الإيرانية على دوائر القرار السوري أيضاً، وعزَّزت هذا الرأيَ التغييراتُ الكبيرة التي تحصل في دوائر القرار السوري، والتي يمكن تلخيصُها بحصر الصلاحيات كلّها، ومنها الاقتصادية، في يد الرئيس الخاضع لإرادة طهران.
هذا يعني أهمّية موقع سورية، رغم ضعف النظام فيها، في مسألة الصراع على النفوذ في المنطقة، وتأتي المصالحة مع دمشق ضمن استراتيجية تركيا لمحاربة الإرهاب ("داعش" وحزب العمّال الكردستاني) بمساعدة الحكومتَين المركزيَّتَين في بغداد ودمشق، خصوصاً مع إعلان "الإدارة الذاتية" في شمال شرق سورية عن انتخابات بلدية، ومخاوف تركيا من ترسيخ الحكم الذاتي الكردي. هذا يدفع تركيا إلى الحفاظ على ما حققته من نفوذ في المناطق الحدودية السورية، وبالتالي الاستمرار في التنسيق مع روسيا على أساس التوافقات التي حصلت قبل أكثر من أربعة أعوام.
تأتي المصالحة مع نظام الأسد ضمن استراتيجية تركيا لمحاربة الإرهاب بمساعدة الحكومتَين المركزيَّتَين في بغداد ودمشق
تريد موسكو تعزيز تحالفاتها السابقة لمواجهة الغرب، وسورية بالنسبة إليها منطقة نفوذ مُهمّة، حيث قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، المُطلَّة على البحر الأبيض المتوسّط، وحيث أهمّية موقع سورية نقطةَ وصلٍ للطرق التجارية بين الخليج العربي وتركيا وأوروبا، ما جعل موسكو تولي أهميةً للسيطرة على الموانئ والمطارات والطرق المركزية، عبر عقود شراكة اقتصادية طويلة الأمد مع دمشق. لكنّ روسيا غير مُستعدّة لدفع تكاليف باهظة لوجودها العسكري في سورية، من أموال ومقاتلين، ما يدفعها إلى الشراكة مع إيران وتركيا، وإحداث توازن بينهما، وأن تبقى لها اليد الطولى في مناطق سورية كلّها عدا شمال شرق سورية والتنف، حيث تخضع تلك المناطق لسيطرةٍ أميركية. تعزّزت فرص عودة دونالد ترامب أخيراً إلى سُدّة الرئاسة بعد فشل الرئيس جو بايدن، وترهّل إدارته، في تسوية الصراعات الدولية، وقد دفع هذا موسكو وأنقرة للتوافق حول مصالحة دمشق استعداداً لقرار الانسحاب الأميركي من سورية، أو تقليص الوجود، انسجاماً مع طروحات ترامب السابقة؛ "أميركا أولاً". وفي الوقت نفسه، تستغلّ الدولتان حالة الكسل الأميركي تجاه سورية، بسبب انشغال واشنطن بدعم الحرب الإسرائيلية على غزّة، وصياغة تسوية ملائمة هناك، وبالحملات الانتخابية الرئاسية، وبالتالي، لا معارضة أميركية واضحة لمسارب التقارب مع الأسد.
ترتبك الفصائل السورية المدعومة من تركيا، ومعها الحكومة المؤقّتة التابعة للائتلاف السوري المُعارِض، وكذلك المجلس الإسلامي السوري، أمام التوجّه التركي الصريح إلى المصالحة مع النظام، وأمام الفئات الشعبية المنتفضة في الشمال رفضاً لهذه المصالحة، وللممارسات العنصرية في تركيا في حقّ اللاجئين السوريين. وبالمثل، ترتبك تركيا التي ليست في مصلحتها خسارة الحاضنة الشعبية ومعاداتها، ولا انقلاب المعارضة عليها بدفع من حراك الشارع، حيث تمارس الفصائلُ القمع والاعتقال بحقّ الناشطين هناك. تركيا تريد البحث عن حلّ سياسي وفق الرؤية الروسية، أي حلّ يجمع المعارضة والنظام. المشكلة أنّ الأخير لا يقبل الشراكة، وهناك تظاهرات مُستمرّة ضدّه في السويداء، وقد تخرُج للتظاهر مناطق أخرى في دمشق أو الساحل، وهناك احتجاجات في إدلب ضدّ هيئة تحرير الشام، وتظاهرات في الشمال، وتململ في مناطق الإدارة الذاتية، والنظام بات في غاية الضعف، وتعويمه مرفوض دولياً... ذلك كلّه يُشكّل فرصةً ملائمة كان على المُعارَضة السورية أن تستعدّ لها وتلتقطها لدفع المجتمع الدولي إلى التوافق على تطبيق الحلّ السياسي وفق القرارات الأممية، بدلاً من الاستمرار في سياسة المراهنة على دعم دول تريد تحقيق مصالحها على حساب الشعب السوري.