أن تحكي أو أن لا تحكي عن لبنان
تودّ أن تحكي عن لبنان، فلا يُسعفك الكلام. لا تدري من أين تبدأ ولا كيف تنظّم أفكارك ولا إلى أين تنتهي بها. تراقب من بعيد ما لا يمكنك إغفاله أو تناسيه. تتواصل مع الأهل، مع الأصدقاء. تخجل أن تسأل عن أحوالهم. تخجل أن تشكو حالك. أنتَ عالقٌ في المطهر، لكنّهم عالقون في جهنّم. تتسقّط الأخبار هنا وهناك، وتقوم بحسابات سريعة: لننسَ اللحوم على أنواعها، والفواكه، والخضرة، فماذا يتبقى؟ ربطة الخبز بـ 12 ألف ليرة، كيلوغرام العدس بـ 70، قارورة الغاز قفزت إلى ما فوق 400 ألف. ماذا يأكلون؟ بم يتدفّأون؟ كيف يعيشون؟ من أين يدفعون الفواتير المضاعفة، المحلّقة، التي طاولت سابع مساء وما زالت تقفز.
الأرقام تتوالى: تحت خط الفقر، أقل من كذا دولار في اليوم، الليرة فقدت 80% من قيمتها، ثمة من يلقون أنفسهم في المراكب المتّجهة إلى موت حتمي، ثمة من يأكلون ما يجدون في النفايات، 30% من الأطفال ينامون من دون عشاء، أو يأتون إلى المدرسة على جوع بطونهم .. كيف تستوعب هذا كلّه، فيما تستمع مساءً إلى نشرة الأخبار، وترى أبطال كابوسك الطويل الذي لا ينتهي ممعنين في إعلان المواقف والإدلاء بتصريحات والوقوف أمام الكاميرا ببذلات نظيفة وقمصان مكوية وروائح عطور. تراهم يلغطون بلغةٍ لم تفرّغ من معانيها فحسب، بل ذابت وبريت وأُفرغت من مادتها، حتى باتت أشبه بكاوتشوك محروق، سخام ورائحة خانقة ودخان يُعمي العيون. إلى أين تشيح نظرك، وبمن تراك تستنجد ليكون شاهدا على عبث ما تراه. مشاهد تفوق الاحتمال، وتكرار يتجاوز كل قرف وغثيان. كيف لا يحرق الشعب اللبناني نفسه اعتراضا، تتساءل، بالعشرات، بالآلاف؟ ألم يخبرونا دوما أننا صمدنا في وجه كل الاحتلالات؟ فلمَ يقدر علينا احتلالُهم هذا، لمَ يتمكّن من إبادتنا جيلا بعد جيل؟
لا ينبغي أن تجلس في المكان نفسه، موضع المراقبة والفرجة والاحتساب، وإلا انفجر رأسُك. تلهّ قليلا بما يدور حولك. إن كنت في أستراليا، تلهّ بالجفاف والحرارة المرتفعة وقد بلغت الخمسين، وإن كنتَ في كندا، فأنت مجبرٌ على متابعة أخبار "كوفيد" طالما أنك محجور ممنوع من الخروج. أما إذا كنت في فرنسا، فالمشاهد متنوّعة من صراع مرشّحي الرئاسة، إلى تصريحات المرشّح زيمور، إلى ميزان حرارة كره الأجانب .. لكن، في نهاية النهار، وأينما كنتَ، سيعود إليك لبنان غصبا عنك، يتمرّغ فيك، يجلس على كتفيك، يلوي عنقك، ويعضّ أطرافك. مهما قاومتَ وشوّحت نظرك إلى البعيد، ستبقى تراه. إنه ألم الضرس الخفيض المستمرّ، وجع القلب الذي يرفّ، الشوكة مغروزةٌ في القدم، الغصّة عالقة في الحنجرة، الغلالة تغشي نظرك وتستبيح الألوان والأشكال، والرائحة المفاجئة الغادرة التي تُشقي روحك.
وأنت، إذ تمعن النظر وتصيخ السمع، تكاد لا تصدّق ما تراه. هذا شعب ذكي تقول، هذا شعب حيّ ولمّاح، فكيف حلّ به ما حلّ؟ "عالمة الفلك" تروّج لرسول جاء من الزُهرة، يخاطب الكواكب ويأمرها أن ترسل إليه طاقاتها، الآن وحالا! لقد أعطيتك الآن طاقة القمر، فهل شعرتِ بها؟ يسألها، نعم تجيبه، ثم تبتسم كطفل بريء وتكرج بضحكاتٍ صغيرةٍ قصيرةٍ كي لا تفقد التركيز. يا الله. منظر الرجل وكلامه وسلوكه لا تغشّ طفلا صغيرا حتى، فكيف .. ثم يطالعك هاشتاغ "تحسين نسل الكلب"، فتكاد لا تصدّق شراسة هجوم كلاب عنصرية مسعورة على مذيعة أخبار تجرّأت وجملت "السيد" مع زعماء - تماسيح أشارت إليهم، وهي تسأل أين هم ممّا يجري في البلاد. وابل من الشتائم والسخرية تجاه صاحبة البشرة السمراء ذات الأصول السودانية، وعود بالسحل وتهديدات على أنواعها، من جحافل من الممانعين والمعترضين، النساء قبل الرجال، تنهال رجما بالنعوت والأوصاف والكلمات البذيئة الرخيصة، فيما أنت تحمي رأسك بيديك، متسائلا: أمعقولٌ هذا كلّه، يا أشرف الناس؟