أن تناصر الطرق الصوفية أردوغان
فور إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية التركية بفوز أردوغان بولاية ثالثة، أرسل الشيخ محمد عادل (1957) شيخ الطريقة النقشبندية الحقّانية، ومقرها قبرص، إلى مريديه ومحبيه في أنحاء العالم، بأن يصلوا ركعتين شكرًا لله تعالى. وظهر الشيخ يدلي بصوته في الانتخابات لصالح أردوغان في صورةٍ تداولها مريدوه في الجولة الأولى. وكما ذهبت أصوات هذا الفرع من الطريقة النقشبندية لصالح أردوغان، فإن فروعًا أخرى من الطريقة ذاتها لها مريدون وأتباع كُثُر في تركيا كانوا مؤيدين لأردوغان كذلك. وتثير ظاهرة تأييد أتباع طرق صوفية تركية مرشّحا رئاسيا عادةً ما يوصف بـ"الإسلامي" الانتباه، خصوصا وأنّ الظاهرة قد تبدو معكوسة في البلدان العربية.
ليست الطرق الصوفية جماعات دينية بالمعنى الحديث الذي يطلق عادةً على جماعات الإسلام السياسي ذات النشأة الحديثة، بل هي طرقٌ مفتوحة، يبايع فيها المريد شيخ الطريقة طواعية. وللطريقة شيخٌ واحد تلقّى عن شيخ وهو بدوره تلقى عن شيخ حتى تنتهي سلسلة التلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذا فهي ليست جماعات حديثة النشأة، بل تمتدّ جذورها إلى قرون خلت، ووجودها الحالي امتداد لوجودها القديم، وبالتالي فإن مشايخ هذه الطرق ليسوا زعامات حديثة. وعادةً ما تنقل تقارير إخبارية تأييد طرقٍ أخرى لحزب العدالة والتنمية ولرئاسة أردوغان مثل جماعة المنزل وجماعة إسكندر باشا وجماعة إسماعيل أغا وكلها فروع مختلفة للطريقة النقشبندية، كما تدعمه طرق صوفية أخرى بخلاف النقشبندية.
أردوغان يمارس السياسة، ولكنه لا يقحم أنفه في قضايا اعتقادية دينية
ما الذي يجعل هذه الطرق تقف إلى الصف الذي يقف فيه سياسيون إسلاميو التوجّه؟ تسهم عدّة أسبابٍ تسهم في ذلك: أولها، أنّ للطرق الصوفية ميراثا من المنع والحظر رافق إعلان الجمهورية التركية الحديثة عام 1925، إذ أصدر زعيم القومية التركية الحديثة، كمال أتاتورك، مرسومًا بإلغاء التكايا الصوفية ومنع إقامة شعائرها. وبالتالي، كان على مشايخ هذه الطرق ومريديها إمّا أن يخفوا شعائرهم، أو أن يهاجروا إلى بلدان أخرى مثل الشام وهو ما حدث. ولكن، شاءت الأقدار أن يُعاد إحياء هذه الطرق في الأعوام التي شهدت صعود السياسيين ذوي التوجّه الإسلامي، فسُمح لهم ببناء تكايا صوفية وإقامة شعائرهم. ولذا، ما من غرابة في أن تساند هذه الطرق التوجّه السياسي المؤيد لها والممكّن لإقامة شعائر الدين بعد سنين عجَاف من القطيعة والمنع.
ثانيها، السياسيون الأتراك من أمثال أردوغان ومن قبله أربكان ليسوا معارضين للمعتقدات والشعائر الصوفية، مثل إثبات كرامات الأولياء، والاستغاثة والتوسّل وغيرها من المعتقدات والشعائر التي كانت محلّ رفض من تيار التجديد والإصلاح الفكري الذي ساد العالم العربي منذ أشعل جمال الدين الأفغاني شعلة هذا التيار. فمن الواضح أن أردوغان مثلاً يمارس السياسة، ولكنه لا يقحم أنفه في قضايا اعتقادية دينية، مردّ أمرها إلى علماء الدين، فهذا التوافق أو لنقل عدم التدخّل في مسائل دينية علمية جعل من الممكن أن تبني صلاتٍ طيبة بين الفريقين.
يكنّ السياسيون، أمثال أردوغان، احترامًا كبيرًا لمشايخ الطرق والعلماء
ثالثها، يكنّ السياسيون، أمثال أردوغان، احترامًا كبيرًا لمشايخ الطرق والعلماء، بل ويزور أردوغان بعضهم طلبًا للدعاء والتبرّك، وهي عادة صوفية قديمة، فقد كان أردوغان يزور محمود أفندي شيخ الطريقة النقشبندية – فرع إسماعيل أغا، وبعد انتقال الشيخ محمود أفندي، والذي حضر أردوغان جنازته، أصبح يزور حسن أفندي خليفته. وهذا الاحترام وهذه الصلات الطيبة بين مشايخ الطرق القديمة والسياسيين الإسلاميين يعني أن الأخيرين ينزلون العلماء والمشايخ منازلهم، وهو ما يجعلهم في صفٍ واحد.
رابع هذه الأسباب، أن للدولة العثمانية ميراثا طويلا في فصل وظائف الدين عن وظائف الدولة، فقد كان السلاطين والحكّام من جهة والعلماء والمشايخ من جهة ثانية لكلٍ منهما وظائف منفصلة، ولكن بينهما صلات، ويحترم كلّ منهما الآخر. وليس هذا الفصل من الفصل العلماني الذي يقضي على الدين تمامًا ويلغيه ولا يعترف به، بل هو فصل لأجل اختلاف الوظائف الدينية عن السياسية، وما يقتضيه كل منهما من تأهيل مختلف. ويحظى الدين بالاعتراف الكامل، كما تحظى الدولة بالاعتراف الكامل كذلك، ويتصل كلٌّ منهما، ويعترف كلٌّ منهما بالآخر. وجد هذا الميراث العثماني القديم طريقه إلى السياسيين الإسلاميين الجدد أو ما يطلق عليهم العثمانيون الجدد.
في التسعينيات في بداية مشوار أردوغان، كان الشيخ محمد ناظم الحقّاني (1922-2014) شيخ الطريقة النقشبندية، مؤيدًا له، بل ورحّب بإطلاق اسم العثمانيين الجدد على هذا الاتجاه السياسي. واليوم، بعد حوالي ثلاثة عقود، ينتخب خليفته الشيخ محمد عادل أردوغان، ويصلي شكرًا لله لفوزه، ويأمر مريديه بالصلاة شكرًا لله. ولا يزال مريدو الطريقة النقشبندية يتوافدون على الشيخ محمد عادل من جميع العالم في زاويته في قرية أكبابا بجوار إسطنبول بفضل التشريعات الجديدة التي نقضت تشريعات أتاتورك، ومكّنت الطرق الصوفية من الوجود والظهور وإقامة الشعائر.