أوراق بندورا .. ماذا بعد فتح الصندوق؟
على الرغم من الأهمية البالغة والاحتفاء المستحق لتسريبات "أوراق بندورا"، إلا أن صورتها الأبعد تبدو كنداء مكرّر ينتظر استجابة لم تأتِ بعد.
العاصفة الجديدة في جوهرها نسخة مكبّرة من تسريبات "أوراق بنما" ثم "أوراق الجنة"، التي نشرها أيضا الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين عامي 2016 و2017، وكلها تكشف جوانب من العالم الخفي لشبكات الملاذات الضريبية والشركات الوهمية.
تتميز الموجة الجديدة بأنها الأقوى، من حيث ضخامة البيانات وحداثة تاريخها وأهمية الأسماء المنضوية تحتها، والتي تشمل أكثر من 330 سياسياً ومسؤولاً عاماً في 91 دولة، منهم 35 من قادة العالم الحاليين، فضلا عن مئات من رجال الأعمال وأهل الفن والرياضة، والإجرام أيضا.
شملت "أوراق بنما" تسريبا من واحد فقط من مقدّمي خدمات تسجيل الشركات الخارجية "أوف شور"، وهو شركة المحاماة موساك فونيسكا التي تعمل في بنما. أما التسريب الجديد فيشمل قطاعا أوسع بكثير يضم 14 مزوّداً، لتظهر الأسماء الخفية لملاك نحو 29 ألف شركة، وهو أكثر من ضعف ما كُشف عنه سابقا.
ومن الخليج إلى أميركا الجنوبية، مرورا بأوروبا، أتت الردود المكرّرة: لم نرتكب أي مخالفات قانونية، هذه أموالنا الخاصة، لم نقصد الإخفاء، بل نقصد مراعاة الخصوصية أو تسهيل الأعمال. ومن الناحية الإجرائية، غالبا ما يكون كلامهم صادقا، هذه ممارسات "تجنّب ضريبي" وليست "تهرّبا ضريبيا"، ولها مكاتب محاماة متخصّصة تفاخر علنا بتقديمها هذه الخدمات القانونية، لكنها تظل سُبّة سياسية وأخلاقية في وجه النظام الاقتصادي العالمي بالكامل.
الأسئلة بديهية: لماذا يدفع مواطن عادي ما يراوح بين 20% و40% من دخله كضرائب، بينما لا يدفع أمير أو وزير أو ملياردير؟ ولماذا يخرج دفق لانهائي من الأموال من الأفقر إلى الدول الغربية مرورا بصناديق وملاذات سرّية تعمل وسيطا؟ حسب دراسةٍ من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، قد يتجاوز حجم دفق الأموال عبر "الأوف شور" 11 تريليون دولار.
تكشف التسريبات أخيرا صورة مُحدثة، فقد اتخذت بعض الدول الغربية إجراءات مثل قوانين شفافة للملكيات العقارية في بريطانيا، كما مارست الولايات المتحدة ضغوطاً على بعض الملاذات، لإلزامها بتسجيل ملاك الشركات الحقيقيين، كما حدث في جزر الباهاما. لكن هذه التعديلات تفتقر إلى العدالة، فالنتيجة كانت ظهور دفق جديد يتجاوز الملاذات الوسيطة إلى الدول الغربية نفسها، مثل لوكسمبورغ وسويسرا وبعض الولايات الأميركية. على سبيل المثال، تحرّكت أموال عائلة نائب رئيس الدومينيكان السابق كارلوس موراليس من الباهاما إلى ولاية ساوث داكوتا الأميركية، والتي تضاعف حجم الأموال في صناديقها الاستثمارية أربع مرات خلال العقد الأخير، بفضل ضمانات سرّية وإعفاءات ضريبية.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أقرّت قانون "فاتكا"، الذراع الطويلة لوزارة الخزانة الأميركية، حيث تجبر بنوك العالم على الإفصاح عن أي رصيد لمواطن أميركي يتجاوز عشرة آلاف دولار، إلا أنها رفضت الانضمام إلى اتفاقيةٍ لمشاركة المعلومات حول أصول الأجانب. إذن، هو الكيل بمكيالين في الاقتصاد كما في السياسة.
وفي الواقع، يستفيد قطاع واسع من المشرّعين الغربيين بشكل شخصي من تلك الأوضاع، وكم كُشف عن ملكياتهم الشخصية المخفية، فضلا عن استفادهم من سياسة "الباب الدوّار"، فكل منهم يخطّط لما بعد تقاعده، حين يصبح عضو مجلس إدارة احدى تلك الشركات أو الصناديق الاستثمارية. "ترزية القوانين" الذين نعرفهم في بلادنا العربية موجودون في الغرب أيضا، على الرغم من أناقة حديثهم وملبسهم.
ذات يوم، كان من القانوني أن يُحرَم السود من حقوقهم المدنية في الولايات المتحدة، وأن يُمنع الأفارقة من المرور في شوارع معينة في جنوب أفريقيا. كان من القانوني أن يعمل الأطفال في مناجم إنكلترا بلا رعاية طبية، وبلا حد أقصى من الساعات حتى الموت.
تُكتب القوانين بموازين القوى، وبنضال البشر. وكما تغيّرت القوانين مرّات بفعل قوى المقاومة المنظمة الواسعة التي تستخدم الأدوات الديمقراطية من المجتمع المدني، والصحافة، والنقابات، فإن هذا الخط النضالي ما زالت عليه مسؤولية تحريك التاريخ وتغيير العالم نحو عدالةٍ أفضل، ولو قليلا.