أوكرانيا وسورية وهذا اليسار
أحدث غزو روسيا أوكرانيا زلزالاً في نظام عالمي كان على مفترق طرق، وستبقى ارتجاجاته تتفاعل ربما عقوداً. ليس لأن ما فعله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يشكّل، بحد ذاته، مفاجأة أو سابقة، بل لأنه، بالمعنى الاستراتيجي وحساب موازين القوى، قد تمادى أكثر، متخطّياً الحدود والدور الجيوبوليتيكي الذي رسمه لنفسه. لقد غرز بوتين السكين في خاصرة أوروبا التي يسعى لأن يكون جزءاً منها ومؤثّراً فيها، ولكنه ينتمي بنيوياً وثقافياً إلى عالم آخر. وهو نتاج منظومة أيديولوحية وقيم تغلّب السلطة على الحرية، وهو الصاعد إلى السلطة من أروقة أجهزة المخابرات. ويعتقد أنه وريث الإمبراطورية السوفييتية التي تدغدغ كبرياءه ويحلم بإعادة إحيائها، أقله من خلال استعادة الهيمنة على الدول التي تحيط بروسيا مباشرةً، كما دأب يفعل منذ سلّمه بوريس يلتسين، الروسي جداً، الحكم في 1999. وقد أثبتت ذلك شخصية الرجل المركبة والمعقدة والمغرقة بعظمة القومية الروسية، ومسيرته الطويلة التي بدأت قبل أكثر من عشرين سنة، والتي قامت على التفرّد بالسلطة، وتعزّزت وتغذّت بالحروب والبطش، بدءاً من إخضاع "الإرهابيين" الشيشان الذين يتقدّمون اليوم فرق جيشه الذي اجتاح أوكرانيا، ليبدأ بعدها مسلسل التوسع عام 2008 بغزو جورجيا التي استعادت استقلالها عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومحاولة إخضاعها بفرض انفصال إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا واعترافه بهما دولتين مستقلتين، ثم تقدّم عام 2014 إلى سلخ شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وضمها إلى روسيا، تبعها تحريض منطقتي دونيتسك ولوهانسك اللتين تتكلمان اللغة الروسية، في إقليم دونباس شرقيّ البلاد، من أجل الانفصال، وسارع إلى الاعتراف بهما عشية غزوه أوكرانيا. وكلّل بوتين حلمه كدولة عظمى بالتمدّد خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق نحو الشرق الأوسط عام 2015 بالسيطرة على سورية وقمع ثورة الشعب السوري الذي انتفض على حكم الاستبداد الأسدي. ويحكم اليوم قبضته على السلطة والجيش، مقيماً القواعد العسكرية البرية والجوية والموانئ الحربية في طول البلاد وعرضها، ويرسل مرتزقة إلى ليبيا والسودان، ويغازل إسرائيل ويطلق سلاحها الجوي في سماء سورية ضد إيران حليفه اللدود وذراعها المليشياوي، حزب الله. وها هو اليوم يستدير نحو أوروبا الغربية، وهدفه تحدّي الولايات المتحدة.
يُسقط الكرملين حكماً ويغيّر آخر في الدول التي تعد حديقة خلفية له، ويضبط إيقاعها على ساعته، ويفعل فيها ما يشاء، ما عزّز لديه شعوراً بالعظمة وبنشوة السلطة
هل هو الشعور بفائض القوة؟ لقد تعامل الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، مع بوتين على اعتبار أن الدول المحيطة، مثل جورجيا وبيلاروسيا وأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وغيرها، بمثابة "الحديقة الخلفية" لموسكو، ومثالاً، ما حصل قبل أشهر مع بيلاروسيا، إذ أرسل بوتين قوات لقمع الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضد حكم ألكسندر لوكاتشنكو الذي يجدّد، مثل بوتين، لنفسه في السلطة منذ أكثر من عشرين سنة. يُسقط الكرملين حكماً ويغيّر آخر في هذه الدول، ويضبط إيقاعها على ساعته، ويفعل فيها ما يشاء، ما عزّز لديه شعوراً بالعظمة وبنشوة السلطة. وكانت العواصم الأوروبية تتعاطى معه بالمفرّق، فمنها من صادق، ومنها من تواطأ، ومنها من استخفّ، أو غلّب مصالحه التجارية. وهذا، إلى حد ما، طبيعي في العلاقات بين الدول. كان تعاطي برلين وباريس ولندن نابعاً من اعتبارها أن روسيا تبقى وريثة الاتحاد السوفييتي، وبالتالي، تبقى عملياً زعيمة تلك المجموعة من الدول في أوروبا الشرقية وآسيا، أي إنها ما زالت جزءاً من المنظومة الروسية، وتدور في فلكها، تماماً مثلما كانت تتعامل واشنطن مع دول أميركا اللاتينية التي كانت تعدّها حديقتها الخلفية، حيث نصبت ودعمت، عشرات السنين، أنظمة حكم عسكرية وفاشية، قمعت مواطنيها ونكّلت بهم، غير أن بوتين الذي ورث إمبراطورية منهكةً ومفكّكة ومعذّبة، راح ينفخ في الاتحاد الروسي روح التعصب القومي، بدل الحرية والتعدّدية، محاولاً الجمع بين أمجاد روسيا القيصرية والاستبداد السوفييتي، فيما انصرفت الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى استعادة استقلالها وإعادة بناء دولها على أسس ديمقراطية، وانتهاج سلوك تصالحي مع شعبها.
يعتقد كثير من جمهور "محور الممانعة" العربي الذي هلّل للتدخل العسكري الروسي لإنقاذ نظام الأسد، أن القيصر الروسي أجبر الإمبريالية الأميركية على الانكفاء عن سورية
وتحوّل بوتين تدريجاً إلى حاكم بأمره، يمركز السلطات ويحصرها بشخصه، متنقلاً بين رئاستي الدولة والحكومة، ويطلق العنان للقمع والاستبداد وزجّ معارضيه في السجون مقابل تحصين سلطته وتأبيدها، عبر تعديل الدستور وتفصيله على قياسه، وتنصيب نفسه ديكتاتوراً لغاية عام 2036. غير أنه، بوصفه رجل استخبارات سابقاً، يستعمل بحنكة خطاب الحكم السوفييتي السابق وأساليبه، ويلعب على عواطف الجمهور الواسع الذي ما زال الحنين يشدّه إلى الحقبة الشيوعية، ليس في روسيا والمحيط فقط، بل في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك القارّة العجوز، من قوى وتنظيمات يسارية متطرّفة وبقايا أحزاب شيوعية تعتقد أن روسيا ما زالت دولة شيوعية ومعادية للإمبريالية، وترى في بوتين نصيراً للشعوب المقهورة، إلى درجة أن تعصبّه القومي دفعه إلى محاكمة روسيا البلشفية التي حمّلها مسؤولية فصل جزء من أراضي روسيا التاريخية، ملقياً بالمسؤولية على لينين نفسه الذي عمل ضد مصالح روسيا، وكذلك ستالين الذي عزّز اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية وحصّنه، عبر نقله ملكية بعض الأراضي إلى أوكرانيا.
كما يعتقد كثير من جمهور "محور الممانعة" العربي الذي هلّل للتدخل العسكري الروسي لإنقاذ نظام الأسد من السقوط في خريف 2015 أن القيصر الروسي أجبر الإمبريالية الأميركية على الانكفاء عن سورية. وفي الحقيقة، مارس بوتين الخديعة مع الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، عندما أقنعه في صيف 2014 بعدم قصف دمشق مقابل أن يسلّم الأسد سلاحه الكيماوي الذي استعمله في الأسابيع التي سبقت ضد المدنيين في الغوطة الشرقية، وأوقع نحو 1500 قتيل. إلا أن هذا "الجمهور الممانع" الذي هو مزيج من قوميين ويساريين وخمينيين، يناصر الأسد والجرائم التي يرتكبها، وبالأخص قصفه الشعب السوري بالبراميل المتفجرة لتطهير المدن من "خلايا الارهاب الداعشي"، وهو لذلك يتعرّض لـ"مؤامرة كونية"، تقودها الولايات المتحدة والغرب الاستعماري. وبوتين، في نظرهم، هو المنقذ الذي ارتكب جيشه في نهاية 2016 مجازر حلب وأمّن الغطاء الجوي لكتائب الأسد والمليشيات الإيرانية التي ارتكبت يومها الفظائع، غير أن بوتين لم يرَ حرجاً في الازدراء بمسألتين أساسيتين للشعوب العربية، أي فلسطين والتوق إلى الحرية، فأقام أوثق العلاقات مع إسرائيل، وكان يستقبل بنيامين نتنياهو بشكل شبه شهري منذ حطت مقاتلات سلاح الجو الروسي على أرض سورية، ووقوفه إلى جانب النظام ضد انتفاضة السوريين من أجل حريتهم وكرامتهم.
سلاح بوتين في المواجهة غير المسبوقة هو القدرة العسكرية وعامل الجغرافيا، ولكن الجيوبوليتيك وحساب المصالح ليسا في مصلحته
وساق بوتين الحجّة نفسها لاجتياح أوكرانيا من أجل تطهير الحكم ممن أسماهم، في خطابه عشية الغزو، "النازيين الجدد ومدمني المخدرات". وفي أوروبا، تبنّت تنظيمات يمينية عديدة، قومية وعنصرية ويسارية متطرفة، هذه الكذبة وهلّلت للغزو الروسي، وهي تخشى الآن أن تصل الحرب إلى دارها وتتظاهر ضدها، وتعتبر أن حكوماتها هي التي استفزّت موسكو "في عقر دارها"، على اعتبار أن انضمام أوكرانيا ذات الحدود المشتركة مع روسيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) يشكّل تحدّياً وخطراً على أمنها. علماً أن أوروبا لم توافق أوكرانيا أو تعدها بقبول طلبها، إلا أن دول الحلف لم تكن ربما صريحة وحاسمة في رفضها، ودفعت الحكومة الأوكرانية إلى الاعتقاد أنها ستلبي طلبها في مرحلة لاحقة، ما أثار غضب الكرملين. هل كان سلوكاً مقصوداً؟ غير أن بوتين، على الأرجح، قد أساء التقدير، وظن أن عواصم الغرب، وتحديداً واشنطن، ستتعاطى مع غزو أوكرانيا كما تعاطت مع الأزمات السابقة، وتترك له التصرّف كما يشاء في حديقته الخلفية البعيدة آلاف الكيلومترات عنها، تماماً مثلما فعلت في تركه يتدخّل عسكرياً في الساحة السورية، ويصبح اللاعب الأساسي على مسرح الشرق الأوسط الذي له هو تقليدياً مساحة نفوذ للولايات المتحدة. فهل كان توريطاً له في المستنقع السوري؟ كذلك فإن أوروبا من ناحيتها اعتقدت على العكس أن بوتين لن يجرؤ على هذا التحدّي، خصوصاً أن هناك مصالح اقتصادية وتجارية متعدّدة بينهما. قيادات الدول الأوروبية مصابة بالذهول والصدمة. الأكيد أن سلاح بوتين في هذه المواجهة غير المسبوقة هو القدرة العسكرية وعامل الجغرافيا، ولكن الجيوبوليتيك وحساب المصالح على مدى الساحتين، الأوروبية والدولية، ليسا في مصلحته، فضلاً عن ضغط الرأي العام المناهض للحرب والتوسّع ولأنظمة الاستبداد والتسلط، حتى داخل روسيا.
لقد دخلت الحرب أسبوعها الثاني، ولم يحسمها بوتين بعد، وهو سيحسمها في النهاية. ولكن المعركة ليست عسكرية فقط بالمعنيين، الحربي والميداني، فمن نصب فخّاً لمن؟ ومن الذي وقع فيه؟ أم أن أوكرانيا وقعت ضحية الطرفين؟ ما فعله بوتين يجعل من الصعب عليه التراجع عنه والعودة إلى الوراء، وهو يبدو محشوراً في الزاوية، إذ إن الطوق طويل ومحكم بالعقوبات الشاملة والموجعة وغير المسبوقة، إلى درجة أن سويسرا انضمت إليها لأول مرة في تاريخها منذ إعلان حيادها. ويبدو معزولاً بشكل كبير، إلى درجة أن خمس دول فقط وقفت إلى جانبه في الأمم المتحدة، كذلك إن معظم رجال الأعمال والأوليغارشيين الروس الذين اغتنوا من حوله بدأوا ينفضّون عنه!