أولبرايت .. أو الناتو شرقاً
أمّا وأن الكلام كثيرٌ منذ نحو شهر عن توجّه أوكرانيا إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) واحدا من أسباب الغزو الروسي الراهن لها، فإن وفاة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، الأربعاء الماضي، تذكّر، لا بدّ، بالجهد الريادي والشديد الأهمية التي أدّته هذه المرأة في الدفع بتوسّع الحلف شرقا، لمّا عملت على انضمام بولندا والمجر وتشيكيا (بلدها الأصلي) إلى الحلف، في 1997، بعد شهورٍ من توليتها وزارة الخارجية في إدارة بيل كلينتون مطلع ذلك العام، وذلك برضى روسي (كان يلتسين رئيسا) وشيءٍ من التشاور معها، ما أغرى إستونيا ولاتفيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفيينا وسلوفاكيا وليتوانيا من شرق أوروبا (ووسطها) لتدخُل في محادثاتٍ من أجل أن تصير دولا أعضاء في الحلف، وهو ما تحقّق لها في 2004. ولا تعسّف في القول إن أولبرايت التي غادرت في 2001 منصبها من أبرز من حملوا عقيدة توسّع "الناتو" وزيادة نفوذه وأدواره. وليس منسيّا أنها التي حسمت تردّدا كان في دوائر إدارة كلينتون و"البنتاغون" في الذهاب إلى حربٍ ضد قوات صرب البوسنة، بعد أن تمادَت هذه في فظاعاتها. والأرجح أنها صحيحة حكاية سؤالِها رئيسَ الأركان، كولن باول، يوما في 1995، عمّا يفعله "جيشنا الرائع" الذي يتغنّى به، إذا لم يجر استخدامُه هناك، فكانت ضربات "الناتو"، بقيادة أميركية (قل إن الحرب كلها أميركية إذا شئت) على قوات الصرب في ربيع 1995، لتنتهي المعارك التي سمّتها "التايم" حرب مادلين، بالمفاوضات ثم انسحاب القوات اليوغسلافية من البوسنة في 1999، العام الذي شهد، بمناسبة بلوغ الحلف عامه الخمسين، إطلاق وثيقة ما سمّي المفهوم الاستراتيجي الجديد لـ"الناتو"، في واشنطن، ببصماتٍ واضحةٍ من الوزيرة في حينه، أولبرايت، انطلاقا من تصوّر الولايات المتحدة، في تلك الأثناء، إن على الحلف العسكري تكييف مهامّه لتشمل العالم كله، تأسيسا على قدرة أميركا وحلفائها الأطلسيين على استخدام القوة بكفاءةٍ مطلقة. وقد رأت الوزيرة، حاملة الدكتوراه في القانون العام من جامعة كولومبيا، "الناتو" أنه "الذراع العسكري اللازم لمواجهة النزعات العرقية والإقليمية خارج نطاق دول الحلف". وليس مؤكّدا، بالضرورة، جواز النظر من هذه الزاوية إلى تدخّل الحلف في ليبيا في 2011، وإنْ بدعوةٍ نافلةٍ من جامعة الدول العربية، وإنْ وسط احتدام ثورةٍ شعبيةٍ ضد معمّر القذافي، وكذا فاعليته الميدانية العسكرية في أفغانستان.
تنتسب تلك المقولات، وكذا طموحات أولبرايت، إلى أرشيفٍ يمكن الإطلال عليه في قراءة انعطافاتٍ عبر منها وإليها "الناتو" الذي كان انفراطه أمرا موضوعا على طاولة دونالد ترامب، قبل أن ينشط الرئيس بايدن في الحديث عن وحدة الحلف وتماسكه، ويُخبر العالم، أخيرا في قمةٍ لدول "الناتو" في بروكسيل، عن وجود مائة ألف جندي أميركي في أوروبا لحمايتها. غير أن يلتسين ليس هو رئيس روسيا الذي لم يكن يرى غضاضةً (هل تجوز هذه المفردة في هذا المقام؟) في أن تقول أولبرايت ما تقول عن أدوارٍ ل"الناتو"، وإنما الرئيس هو فلاديمير بوتين الذي سأل مرّة عمّ يدعو هذا الحلف إلى عدم حلّ نفسه، بعد أن حلّ حلف وارسو نفسَه، ثم حذّر من دعوة أوكرانيا وجورجيا إلى الانضمام إلى "الناتو"، واعتبر أمرا كهذا "تهديدا" صريحا لبلاده. وفي أرشيفه المُستعاد، في هذه الأيام، قول بوتين في كلمته في مؤتمر ميونخ للأمن في 2007 إن في توسّع "الناتو" شرقا استفزازا لروسيا. ولعل تلك الكلمة، أو أصداءَ لها في غير مناسبة، كانت وراء لهجة "تطمينٍ" بدت عليها أولبرايت، الوزيرة الصقورية في زمن يلتسين، وهي رئيسة وفد "مجلس حكماء الناتو"، في كلمتها أمام مجلس الدوما الروسي في موسكو، في فبراير/ شباط 2010، وقد أبلغت مستمعيها عن "دهشتها" من اعتبار روسيا توسّع "الناتو" شرقا أحد التهديدات الرئيسية التي تواجهها، على ما جهرت بهذا العقيدة العسكرية الروسية المعلنة في ذلك العام (جرى تعديلها في 2014 وصادق عليها بوتين وأكدت "الناتو" تهديدا رئيسيا). .. قالت "الحكيمة" أولبرايت للنواب الروس إن "الناتو" تخلّى منذ زمن عن الحرب الباردة، ويركّز اهتمامه على مكافحة المخدّرات والإرهاب الدولي ومنع انتشار الأسلحة النووية. ولكن المؤكّد أن الرئيس بوتين لم يقبض هذا الكلام على محمل الجدّ، بدليل أن الجيش الروسي يحارب في أوكرانيا، بينما ناسٌ في "الناتو" وغيرُه ينعون مادلين أولبرايت، ويحكون عن شمائل لها، مدّعاة أو كاذبة.