أين الدولة التي يُراد إنقاذها في سورية؟
في محاولة لتبرير إعادة احتضان نظام الأسد عربياً، شاعت تحليلات أن هذا يعني الانتصار للدولة الوطنية واستقرارها ووحدة أراضيها وسلامة مؤسّساتها، في مواجهة مظاهر الفوضى والفاعلين من خارجها، وخصوصاً الجماعات المسلحة، وينطوي ذلك على اعتراف بشرعية آلة القمع باعتبارها مؤسّسة شرعية من مؤسّسات الدولة، والأخطر انتصاراً لخطاب السلطة، باعتباره دولياً مؤسّسياً، على حساب المطالب والحقوق بوصفها خطاباً شعبوياً.
في هذا السياق، يجرى الحديث صراحة عن خطأ المجتمعات العربية في المسارات التي سلكتها لتحقيق مطالبها في الديمقراطية والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية، والأدوات التي استخدمتها لتحقيق أهدافها في ظل حراك الربيع العربي، وتحميل هذه المجتمعات مسؤولية الكوارث التي حصلت، الأمر الذي يستلزم معه تراجعها عن مطالبها وتسليم القيادة للأنظمة الحاكمة وقبول أنماط حكمها، وانتظار ما تجود به من إصلاحات.
وقع في هذا الخطأ المنهجي مثقفون عرب عديدون، والذي يتجلى في فكرة أن الحاكم هو الدولة، ويخرج أهم ركن من المعادلة وهو الشعب، بينما هو العنصر الأول الذي يجب قياس وجود الدولة على أساسه، وخصوصاً في أوقات الأزمات السياسية، في حالاتٍ أخرى ربما يجري التغاضي بحكم الواقعية، طالما أن الأمور تسير بدون اضطراب، إنما في الحالة السورية المضمّخة بالدم فذلك يعني انتصاراً لطرف على حساب طرف.
المفارقة أن هذا التحوّل يوصَف هزيمةً لمشروع الإسلام السياسي الذي حاول أن يهيمن على المشهد في العالم العربي، من دون أي التفاتٍ لرأي وموقف الملايين الذين عبّروا عن أشواقهم للحرية وللعدالة، ومن دون التوقف عند حجم الارتكابات التي قام بها النظام الحاكم، والنتائج الفاضحة. والمفارقة أيضا أنه يتم تصوير الأمر أنه محاولة لتفكيك الأزمات التي صنعها الربيع العربي، ومنها اللاجئون والمخدّرات، وبالتالي، فإن إعادة الاعتبار لمؤسّسات دولة الأسد كفيلة بإنهاء هذه المظاهر!
التطبيع مع النظام السوري هدفه وأد مطالب الشعوب العربية في الحرية والعدالة، عبر الانحياز للأنظمة العربية وتضييق الخيارات وحصرها بالحكم السائد
الأدهى من ذلك كله تصوير الأمر تمرّداً على الهيمنة الدولية، والمقصود بها أميركا، حيث يتم اختبار التطبيع مع النظام المارق في هذا الإطار، بالرغم من اتّكائه على قوّة أكثر بشاعة في الهيمنة، روسيا وإيران... وواضح أن المقصود بذلك وأد مطالب الشعوب العربية في الحرية والعدالة، عبر الانحياز للأنظمة العربية وتضييق الخيارات وحصرها بالحكم السائد وأي تصور للحكم والإدارة يجب أن يكون تحت سقفه. كما يجرى حرف الوقائع بتصوير الحراك الحاصل حراك جماعة، في الغالب، هي جماعة الإخوان المسلمين، ضد الدولة، وبالتالي، يستدعي المنطق الانتصار للدولة التي يمثلها الحاكم والسلطة القائمة، وكذا انتصار للدولة في مواجهة المليشيات التي اختطفتها، لكن السؤال من هي المليشيات التي اختطفت الدولة في المثال السوري؟
الأمر الثاني ماهية الدولة وصحيح تمثيلها، أين هي الدولة في الحالة السورية، هل هي فقط جهاز القمع الذي تستخدمه جماعةٌ معينةٌ ضد الجماعات الأخرى؟ في الحالة السورية، أخلّت هذه الجماعة تماماً بأساسيات الدولة والاجتماع، عبر عبثها بالميزان الديمغرافي ومحاولة إجباره بالقوة على مطابقة رؤى تلك الجماعة، وتدمير مقصود ومنهجي للعمران السوري.
قد تكون للدول العربية مبرّرات للعودة إلى سورية، تنطلق من منظورها للأزمة ومصالحها الذاتية، وقد ترى الدول أن وقف تجارة الكبتاغون والتخلص من عبء اللاجئين قضايا باتت ترهق الدول المعنية، وقد تتسبّب بأزماتٍ مستقبليةٍ للأطراف التي تعاني منها، وأن احتضان الأسد قد يساعد، بطريقة أو أخرى، على تفكيك هذه الأزمات أو جزء منها، ما دامت الدول العربية أصلاً غير معنيةٍ بقضية الديمقراطية وخيارات الشعب السوري التي تعتبر أمام هذه الوقائع مسائل رومانسية غير مهمة.
إعادة تفعيل البنى الموجودة وتحويلها إلى أدواتٍ ومؤسّساتٍ للدولة السورية أمر فات أوانه
ذلك كله يمكن تصوّره، لكن من الخطأ وضعه ضمن عناوين أكبر منه، حتى لا يتحوّل تدمير الشعوب إلى أعمال شرعية، والعرب يملكون أوراقاً كثيرة يستطيعون من خلالها إجبار القوى الفاعلة في النظام الدولي على احترامهم وتحقيق مصالحهم السياسية والأمنية، من دون الاضطرار إلى الاتكاء على ورقة إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية واحتضانه، فما هو وزن هذا النظام في المعادلات الإقليمية، وأي إضافةٍ يمكن أن يشكلها في مساعي العرب للتأثير بالنظام الدولي لإعادة صياغته لموقفه من العالم العربي، بل السؤال الأهم: أين العمل العربي في هذا الاتجاه، ما هو ملحوظ مواقف متفرقة هنا وهناك بدون تنسيق عربي ورؤية عربية واضحة.
في وقت يرفع بعضهم راية الانتصار للدولة، يفوتهم أن الدول العربية لا تملك القدرة على تغيير معطياتٍ كثيرة، لا تملك الآليات المناسبة والأدوات اللازمة، وعدا عن إمكانية إعادة صناعة دولة في سورية، فإن سورية، جغرافيا وشعباً، مجزّأة في إطار مشاريع إقليمية ودولية، وأن الدولة السورية ابتلعتها إيران وروسيا، ولم يعد ممكناً لحل هذه الأزمة بالنسبة للعرب سوى صناعة دولة موازية أو بديلة، مثلما تفعل دولٌ كثيرة بإقامة عواصم بديلة، حين تصبح العواصم غير مساعدة على تسيير شؤون الإدارة لأسبابٍ تتعلق بالكثافة السكانية ووجود مشكلات مستعصية في شبكات المواصلات والاتصالات تؤثّر على فعالية الأداء الحكومي.
ويبدو أن هذا هو الحل الأسلم لسورية، ذلك أن إعادة تفعيل البنى الموجودة وتحويلها إلى أدواتٍ ومؤسّساتٍ للدولة السورية أمر فات أوانه، ليس بسبب سيطرة نظام الأسد والتحكّم بآليات تشغيلها، ولكن بالنظر للتأثيرات الروسية والإيرانية، والتي من المؤكّد أنها أثرت، بشكل كبير، في صياغتها وتوجّهها ربما إلى سنوات مديدة، تماما كما أثرت الكولونيالية بمؤسّسات الدول التي تم استعمارها، بحيث ظلت هذه المؤسّسات، ورغم عقود من الاستقلال، تعيد إنتاج القيم التي أدخلتها تلك الدول في منظومة هذه المؤسّسات.