أين تُقتل هذا المساء؟

06 فبراير 2015
+ الخط -

سدد القاضي حكماً نافذا في صدر الشاب المحسوب على ميدان التحرير، فصفق الأخير، وهو يستمع إلى كلمات منطوق الحكم، تهوي على رأسه كصخور طائشة، "السجن المؤبد" له ولمجموعة من المتظاهرات والمتظاهرين. وفي رد فعل شديد التلقائية، رد القاضي على تصفيق المحكوم عليه، قائلا "أنت فاكر نفسك في ميدان التحرير، سأعطيك ثلاث سنوات أخرى".
وسواء كانت كلمات القاضي صاحب الرقم القياسي في أحكام الإعدام الصادرة من مساحة اللاوعي، أو الوعي، فإنها تكشف، بوضوح، عن حالة احتقار وكراهية مستحكمة لميدان التحرير، تسكن روح هذا النظام، بشرطته وعسكره وقضائه، بما يؤكد، مرة أخرى، أن أمراء الانتقام قد عادوا للقضاء على "التحرير"، بثورته وثواره، وإقامة مملكتهم فوق أنقاضه.
ولا يفرق النظام، هنا، بين أيديولوجية وأخرى، أو بين تيار سياسي ونقيضه، إذ يكفي أن تكون قد انتسبت لثورة يناير وقتا، طال أم قصر، وشاركت في فعاليات ميدان التحرير، عندما كان ينضح بالغضب والثورة على نظام مبارك، حتى تجد نفسك تحت مقصلةٍ لا ترحم، أو تحت جنازير مدرعة، أو تحت الأرض في قبو للتعذيب والاختفاء القسري.
ليس أحمد دومة فقط الذي استقرت في أنحاء وجوده شظايا الأحكام العنقودية، بل سبقه ورافقه، وسيأتي بعده، كثيرون ممن هتفوا يوماً "يسقط حكم العسكر"، وطالبوا بإسقاط دولة مبارك، إذ لا تفرق النيران، الآن، بين "إسلامي" بلحية، أو يساري أو ليبرالي بالجينز والقبعة، فقد ولى زمن العدل والرحمة، فلم يعد يكفي، مثلاً، أن تكون فتاة، مثل هند نافع، التي عجنها العساكر بأحذيتهم وهراواتهم وكعوب بنادقهم، حتى اختفت ملامح وجهها، وخرجت من تحت أيديهم، مثل قطعة من اللحم المفروم، حتى تحصل على حقها الضائع بين يدي القضاء، أو أن يكون طفل قاصر، حتى يرأفوا بحاله، فالجميع في "هولوكوست الانتقام" سواء.
غير أن المحزن في الأمر أن فريقاً ممن تجرعوا الظلم والبطش والتنكيل، لم يجدوا غضاضة في مشاطرة العائدين للإبادة الانتقام، من خلال تعليقات شامتة، ترحب بما نزل على رؤوس المحبوسين من أحكام، تماماً كما انزلق فريق آخر إلى عطن الشماتة في ضحايا النظام ذاته في مذابح رابعة العدوية والنهضة، وما تلاهما من عمليات تصفية وإزالة من الوجود.
أعلم أن جبالاً من المرارة تتراكم فوق صدور الذين أوذوا، نتيجة ذلك التماهي المشين بين مجموعات محسوبة على ثورة يناير وفلول الدولة العميقة، وأدرك أن كثيرين ارتضوا أن يكونوا جسراً لعبور آليات دولة مبارك العائدة للانتقام، وأعرف أن بعضهم، نكاية في الفصيل الإسلامي الذي تقاسموا معه خبز الثورة وماءها يوما، أقدموا، في لحظة بائسة، على التضحية بهذه الثورة.
أعلم ذلك وأكثر منه، غير أن المسألة، هنا، تتعلق بقضية محددة: هناك طرف - تختلف معه إلى أقصى درجات الاختلاف- تعرض لظلم شديد، وانتهكت حريته، وغيبت حقوقه كإنسان، فهل من الإنسانية والنزاهة في شيء أن ترحب بظلمه، وتبتهج للتنكيل به، من جانب أولئك الذين نكلوا بك، وسوف ينكلون مستقبلا؟
السؤال بصيغة أخرى: لديك جار لقيت على يديه صنوفاً من الإساءة والإهانة والشماتة، ثم جاء لص، أو قرصان، واعتدى على حياته أمامك، فهل تكون سعيداً، وتصفق للقاتل وأنت تشاهد حياة إنسان تزهق أمامك؟
أسوأ ما مر على مصر من صور تلك التي كان فيها مواطنون مع الانقلاب يشغلون أجهزة الصوت بأغنيات تمجد في القتلة، "تسلم الأيادي" مثلاً، كلما مرت أمام بيوتهم جنازة لواحد من شهداء فض الاعتصامات، تعبيراً عن انسلاخ كامل عن الإنسانية. وأظن أن الشامتين في إلغاء حياة مواطنين، بالإعدام أو بالمؤبد، هو سلوك لا يقل فظاعة وبشاعة عن الرقص على إيقاعات أغاني القتلة.
ويبقى أن الذين دعوا إلى تظاهراتٍ تفضي إلى تفويض جديد بالقتل اليوم، لا يفرقون، في بغضائهم، بين إسلامي وليبرالي واشتراكي، فالكل في مرمى النيران، ما دام رافضاً الانقلاب ودولته، مما يجعل التوحد والاصطفاف بمواجهة هذا النظام الوغد واجباً على الجميع، وإلا.. ليس أمامك أن تختار أين تُقتل هذا المساء.

 


 

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة