أي ثمن للمصالحة بين المغرب وفرنسا؟

08 نوفمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

دشّن المغرب وفرنسا فصلا جديدا في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد زيارة الدولة التي أدّاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بمعية وفد رفيع من 122 شخصا، إلى الرباط نهاية الشهر الماضي (30 - 28 أكتوبر/ تشرين الأول)، لينهي بذلك أزمة دبلوماسية صامتة استمرّت زهاء ثلاث سنوات بين البلدين، استخدم فيها الطرفان أساليب مشروعة (أزمة التأشيرات وملف الهجرة...) وغير مشروعة (المسّ بالحياة الشخصية للرئيس الفرنسي) في سياق تبادل الضربات بينهما.

تطوي زيارة المصالحة صفحة الفتور الدبلوماسي بتدشين "شراكة استثنائية وطيدة"؛ تعدّ الأولى من نوعها لباريس مع بلد خارج الاتحاد الأوروبي، ترسم خريطة طريق لعلاقات البلدين ثلاثة عقود مقبلة، استناداً إلى جملة مبادئ من قبيل "المساواة في السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واختيارات السياسة الخارجية واحترام الالتزامات المبرمة والثقة والتشاور المسبق..."، تمثل "إطارا استراتيجيا جديدا"، حسب صحيفة لوموند الفرنسية، سيكون بديلا عن اتفاقية سان كلو الموقّعة عام 1955.

هكذا، تحوّلت مخاطبة الرئيس الفرنسي المغاربة من فعل مستهجن قبل نحو سنة؛ في سبتمبر/ أيلول 2023، بعد حادثة زلزال الحوز، إلى نشاط رسمي تفتتح به أجندة اليوم الثاني من الزيارة، حيث خاطب ماكرون ممثلي الأمة في البرلمان المغربي، استنادا إلى الفصل 68 من الدستور، مؤكّدا موقف بلاده السابق بشأن دعم سيادة المغرب على الصحراء، "أعيد التأكيد أمامكم، أنه بالنسبة لفرنسا، فإن حاضر هذه المنطقة ومستقبلها يندرج في إطار السيادة المغربية"، مضيفا أن "الفاعلين الاقتصاديين وشركاتنا سوف يرافقون تنمية هذه المنطقة عبر استثمارات ومبادرات دائمة وتضامنية لصالح سكانها".

فسّرت أصوات مغربية كثيرة التحول الطارئ في الموقف الفرنسي بأنه تفاعل مع خطاب الملك محمد السادس، في أغسطس/ آب 2022، الذي حدّد بوصلة الدبلوماسية المغربية، "نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة، إن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية"، معلناً، بلغة مباشرة لا تحتاج إلى تأويل، "ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنّى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربيّة الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكلٍ لا يقبل التأويل".

وقد حدا هذا خبراء ومحللين إلى القول إن المغرب بات يُروِض الدبلوماسيات الأوروبية، فبعد مدريد وبرلين جاء دور على باريس، في قراءة اختزالية فجة، تنمّ عن تماهي أصحابها، إلى درجة الانصهار، مع السردية الرائجة في الدوائر الرسمية، لأن طرح أسئلة بديهية عن توقيت الزيارة، ودواعي التأييد الفرنسي، المتأخّر نسبيا، مبادرة الحكم الذاتي، كفيل بتوضيح الثمن المدفوع لثني الدبلوماسية الفرنسية عن مواقفها؟

قضية الصحراء هي "مفتاح المصالحة" بين الرباط وباريس، وهذا صحيحٌ، شريطة استحضار المصالح الاقتصادية

يشاع أن قضية الصحراء هي "مفتاح المصالحة" بين الرباط وباريس، وهذا صحيحٌ، شريطة استحضار المصالح الاقتصادية، فالانقلاب في الموقف الفرنسي لصالح المغرب، بعد سنوات من التردّد والالتباس، كان مقابل 22 اتفاقية اقتصادية وتجارية بمبلغ إجمالي يصل إلى عشرة مليارات يورو. وكانت باريس واضحة، في مقاصدها، بالإصرار على "مرافقة المغرب بالخبرة التي اكتسبتها خلال الألعاب الأولمبية في باريس في مشاريع البنية التحتية الكبرى المتعلقة بكأس العالم لكرة القدم 2030".

تبحث فرنسا ماكرون عن متنفّس يخرجها من دوامة أزماتٍ لا تنتهي (السترات الصفراء، تعقيدات المشهد السياسي، الخروج من أفريقيا...)، فكانت الزيارة مائدة من السماء على الرئيس الفرنسي بعدما فتح الأبواب، وبالأفضلية والامتياز، أمام الشركات ورجال الأعمال الفرنسيين في عدد من القطاعات الحيوية؛ بدءا بتطوير شبكة السكك الحديدية مرورا بتطوير صناعات الطيران، وليس انتهاء بالطاقات المتجدّدة.

بوضوح أكثر، وبلغة الأرقام، تسعى شركات فرنسية إلى كسب عقود مستقبلية، بدعم من الرئيس ماكرون، فشركة ألستوم تنافس لنيل عقد لبيع 18 عربة لخدمة القطارات السريعة، وأن تكون حاضرة في مشروع تمديد الخط السريع نحو مدينة مراكش، في سياق تأهيل بنية النقل السككي في البلد استعدادا لكأس العالم. كما تأمل شركة إيرباص في منافسة بوينغ، قصد الحصول على حصّة من خطة تجديد أسطول النقل الجوي المغربي، الطامح إلى شراء 188 طائرة بحلول عام 2037. كما تفاوض من أجل بيع 18 مروحية كاراكال للقوات المسلحة الملكية بقيمة مليار يورو. تطمح شركة ڤيوليا من جهتها، إلى إنشاء أكبر محطة لتحلية مياه البحر في أفريقيا والثانية على مستوى العالم، بنواحي العاصمة الرباط، بحلول عام 2028. فيما نجحت أخرى في ذلك، فقد ظفرت شركة توتال إنيرجي بمشروع بقيمة ملياري يورو لإقامة المرحلة الثانية من حديقة الرباح في مدينة تازة. كما نجحت شركة "سي إم إيه سي جي إم" في توقيع اتفاقية في مجال النقل البحري لاستغال ميناء الناظور 25 عاما.

ترغب باريس في تسخير المغرب جسراً لضمان عودتها الناعمة إلى منطقة الساحل الأفريقي تحديداً

زيادة على ذلك، ترغب باريس في تسخير المغرب جسراً لضمان عودتها الناعمة إلى منطقة الساحل الأفريقي تحديداً، مستغلة نفوذه وعلاقاته بالدول الأفريقية لإعادة صياغة مصالح فرنسا في القارّة. لا سيما بعد نجاح المستثمرين المغاربة في كسر الهيمنة الفرنسية والأوروبية على أسواق عدة دول (السنغال والغابون وساح العاجل ...)، فهو ثاني أكبر مستثمر أفريقي بعد جنوب أُفريقيا.

يخشى مراقبون أن تكرّر الدبلوماسية المغربية سيناريو الاعتراف الأميركي الذي كان مقابل تطبيع المملكة علاقاتها مع إسرائيل، فاعتبرت واشنطن وغيرت خريطتها ووعدت بقنصلية في الصحراء من دون أن يتحقق ذلك. تصحّح باريس بدورها خريطة المغرب، مؤكّدة على لسان جون نويل بارو؛ وزير أوروبا والشؤون الخارجية، أن فرنسا ترفق القول بالفعل، مؤكدا بدوره، أن بلاده تعتزم تعزيز حضورها القنصلي بالصحراء.

لا تجد كل هذه التحولات لها صدىً في مجلس الأمن، فتأثير واشنطن وباريس من أصل خمسة دائمي العضوية، لم يظهر في القرار بشأن قضية الصحراء، الذي صدر أخيراً بالفكرة والمضمون نفسيهما من دون أي تغيير. آن الأوان أن يجيب مهندسو الدبلوماسية المغربية عن سؤال انعكاس الثمن الذي يدفع (التطبيع، الهيمنة الاقتصادية) لاستكمال الوحدة الترابية على مسار القضية في أروقة الأمم المتحدة؟

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري