أي وظائف تشريعية لبرلمان قيس سعيّد؟
بعد ما يزيد على 19 شهرا من تجميد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أعمال المجلس التشريعي (البرلمان) السابق، والذي وقع حلّه نهاية شهر مارس/ آذار 2022، ووسط جدل كبير يشغل المشهد السياسي والإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي، عقد الإثنين 13 مارس/ آذار الحالي ما اصطلح على تسميته برلمان قيس سعيّد جلسته الافتتاحية التي خصصت لأداء النواب الجدد اليمين، وتشكيل لجنة إعداد النظام الداخلي وانتخاب رئيس البرلمان ونائبيه. وبحسب الفصل 71 من الدستور الجديد، يعقد هذا المجلس دورة عادية تبدأ خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول من كل سنة، على أن تكون بداية الدورة الأولى من المدّة النيابية في أجل أقصاه 15 يوما من تاريخ الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، وذلك بدعوة من رئيس المجلس المنتهية مدته، أو بدعوة من رئيس الجمهورية في حال حلّ مجلس نواب الشعب، وهو ما ينطبق على واقع الحال.
ويعدّ هذا البرلمان الجديد الذي انتُخب بنسبة هي الأضعف في العالم أول مؤسّسات "الديمقراطية الجديدة" التي ترى النور في المسار الاستثنائي الذي أقرّه قيس سعيّد بعد سريان التدابير الاستثنائية، بدءا من 25 يوليو/ تموز تموز 2021، التاريخ الذي فعّل فيه سعيّد الفصل 80 من دستور 2014، ومضى، بموجب ذلك، إلى تجميد أشغال المجلس السابق، ثم حله في شهر مارس/ آذار من العام نفسه. وبذلك غيّر سعيّد نظام الحكم من نظام سياسي يوصف بـ"شبه البرلماني" إلى نظام سياسي يوصف بـ"الرئاسي"، ولكن معارضي قيس سعيّد يصفون ما قام به بالانقلاب على الدستور بغرض المضي إلى نظام رئاسوي يمركز كل الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، ما هيأ لنظام دكتاتوري أصبح السمة البارزة في الداخل والخارج.
فجّر البرلمان الجديد جدلا صاخبا اختلفت فيه التقديرات بخصوص الجدوى من هذا البرلمان، وتساءل خبراء في القانون الدستوري ومؤسّسات مجتمع مدني وأحزاب وغيرها عن مدى فاعلية هذا البرلمان في العملية السياسية الجديدة بين من يرى أن المجلس التشريعي الجديد قد أفرغه دستور قيس سعيّد من مهامه الأساسية، ليصبح جهازا تابعا للسلطة التنفيذية ومساعدا لها في المجال التشريعي، في حين يرى مساندو سعيّد بأن هذا البرلمان يشكّل فرصة للقيام بإصلاحات تشريعية جديدة. وفي هذا السياق، يذهب خبراء القانون الدستوري إلى أن نصّ الدستور الجديد الذي خطّه قيس سعيّد قد أفرغ البرلمان من وظيفته التشريعية، فالرئيس يتدخل في السلطة التشريعية، ولن يكون البرلمان المتحكّم فيها، ولم يعد له تدخّل في باقي السلطات، وخصوصا في المحكمة الدستورية، وخلافا للبرلمان السابق الذي يوصف بالتشاركي، والذي كان يختار رئيس الحكومة، ويمنح الثقة للحكومة، وله إمكانات واسعة بسحب هذه الثقة، كما كانت له صلاحيات سحب الثقة من رئيس الجمهورية، وانتخاب أعضاء الهيئات الدستورية، على غرار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والمجلس الأعلى للقضاء، والهيئة التعديلية للإعلام والمحكمة الدستورية، وهي وظائف فقدها البرلمان الجديد، بدليل أن رئيس الجمهورية يمكنُه التشريع بالمراسيم في العطلة البرلمانية، وبإمكانه الاعتراض على مشارع القوانين وعدم ختمها، كما أن البرلمان الجديد مطالب بأخذ رأي مجلس الأقاليم والجهات (الغرفة الثانية) في المسائل المتصلة بالتنمية والميزانية، ما يؤكّد أن مشاريع القوانين الواردة من السلطة التنفيذية (الرئيس وحكومته) تظل لها أولوية النظر للمصادقة عليها.
المشروع السياسي القاعدي الذي يمضي فيه سعيّد يظلّ، في مجمله، يلفّه الغموض، إذ لم تتضح صلاحياته وصورته وآلياته ونتائجه
وفي خضم هذا الجدل الصاخب بشأن محدودية الوظائف التشريعية للبرلمان الجديد، يعدّ الدستور الذي خطّه قيس سعيّد المرجع الأساس لهذه الوظيفة، وذلك بدءا من الفصل 60 إلى غاية الفصل 75 من هذا الدستور. وبالتوقف عند أهم ما جاء في هذه الفصول، يتبيّن أن مجلس نواب الشعب يمارس الوظيفة التشريعية في حدود الاختصاصات المخوّلة له في الدستور الجديد، وأن لرئيس الجمهورية حقّ عرض مشاريع القوانين، وللنواب حقّ عرض مقترحات هذه القوانين، شرط أن تكون مقدّمة من عشرة نواب على الأقل. ويختصّ رئيس الجمهورية بتقديم مشاريع قوانين الموافقة على المعاهدات، ومشاريع قوانين المالية. ولمشاريع رئيس الجمهورية أولوية النظر، أما المقترحات المقدّمة من النواب، فإنها، حسب الدستور الجديد، لا تكون مقبولة، إذا كان من شأنها الإخلال بالتوازنات المالية للدولة، ولعل الفصل 72 من الدستور يبقى الأكثر خطورةً ودلالةً على إفراغ المجلس التشريعي الجديد من مهامه، إذ ينصّ هذا الفصل "لرئيس الجمهورية أن يتّخذ خلال عطلة المجلس بعد إعلام اللجنة القارة المختصة بمراسيم يقع عرضها على مصادقة مجلس نواب الشعب وذلك في الدورة العادية الموالية للعطلة". أما الفصل 75 من الدستور، فيقرّ بالوضوح الملزم بما يلي: "لرئيس الجمهورية أن يدفع بعدم قبول أي مشروع قانون، أو أي مشروع تعديل يتضمّن تدخّلا في مجال السلطة الترتيبية العامة، ويعرض رئيس الجمهورية المسألة على المحكمة الدستورية، للبتّ فيها في أجل أقصاه 10 أيام، ابتداءً من تاريخ بلوغها إليها". وفي المحصلة، ونظرا إلى أن وزن البرلمانات وفاعليتها في كل الأنظمة تُقاس بطبيعة النظام السياسي، وبما تنصّ عليه فصول الدستور، لن تكون للبرلمان الجديد في تونس تدخلات ذات أثر بالغ في السلطة التشريعية. وكما سبق، لن يكون المتحكّم فيها، خصوصا في اختصاصات باقي السلطات التنفيذية والقضائية، أو في المحكمة الدستورية. وبالتالي، يُخشى أن يكون هذا البرلمان مجرّد مؤسّسة، يعود قول الفصل فيها للسلطة التنفيذية، وبالتالي لرئيس الجمهورية الذي يمكنه كذلك في أي ظرف تجميد نشاط المجلس أو حله والدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها حسب الفصل 109 من الدستور.
لن تكون للبرلمان الجديد في تونس تدخّلات ذات أثر بالغ في السلطة التشريعية. لن يكون المتحكّم فيها، خصوصاً في اختصاصات باقي السلطات التنفيذية والقضائية
الملاحظ أن الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد التي انعقدت في غياب وسائل الإعلام التونسية الخاصة وممثلي وسائل الإعلام الخارجي قد تزامنت مع قرار آخر اتّخذه سعيّد حلّ به كل المجالس البلدية قبل نهاية مدّتها الانتخابية بأكثر من شهرين، وعوّض هذه البلديات بما أطلق على تسميتها النيابات الخصوصية. ويرى متابعون في الشأن التونسي أن حلّ البلديات وانطلاق أشغال (أو أعمال) المجلس التشريعي الجديد تشكّل فصلين أخيرين في مسار قيس سعيّد نحو تأسيس (وتنفيذ) مشروعه السياسي في البناء القاعدي الذي انطلق فيه على مراحل منذ 25 يوليو/ تموز 2021. وفي هذا السياق، يمكن استحضار ما قاله قيس سعيّد خلال حملته الانتخابية (2019) إنه "لا يطرح برنامجا انتخابيا تقليديا، وإنما رؤية مغايرة للحكم والتنمية تمكّن التونسيين من التعبير عن إرادتهم على المستويين، المحلي والجهوي، وصولا إلى المستوى المركزي". مضيفا "ضرورة تمكين الشعب عبر القانون من الارتقاء بمطالبه إلى مستوى القرار من خلال بناء قاعدي عبر إنشاء مجالس محلية ...".
وتبعا لما سبق، يمكن القول إن المشروع السياسي القاعدي الذي يمضي فيه سعيّد يظلّ، في مجمله، يلفّه الغموض، إذ لم تتضح صلاحياته وصورته وآلياته ونتائجه. ويجمع متابعون على أن مشروع البناء القاعدي طوباوي، قد جُرّب في أكثر من بلد، وكانت نتائجه كارثية على البلاد والعباد. ويستدلّ هؤلاء بالنظام الجماهيري في ليبيا ونتائجُه معلومة وتجربة الكولكوز في الاتحاد السوفييتي سابقا، ويُخشى أن تدخل تونس مع هذا النظام الجديد مغامرة غير محسوبة العواقب، تكون نتائجها هي الأخرى كارثية، خصوصا وقد شهدت تونس تجربة مشابهة، هي تجربة "التعاضد" في إطار التجربة الاشتراكية التي أقرّها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ونفذها وزيره الأقوى أحمد بن صالح. وقد تُوّجَت بفشل ذريع، ما جعل بورقيبة يتراجع عن خياره، ويدعو الراحل الهادي نويرة إلى إطلاق تجربة الاقتصاد الحر التي استمرّت عشر سنوات، وأخرجت البلاد من أزمتها الاجتماعية والاقتصادية.
أخيرا، وفي هذه المناخات والخوف من المجهول الذي أصبح يسكن التونسيين، يستحضر كاتب هذه المقالة مقولة الفيلسوف نيتشه: "كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران علّموه على الأقل أن يسرع في السقوط".