إبادة جماعية واعدة ومبشّرة
هذه الأربعون ألفًا المُعلنة من عدد الشهداء في غزّة ليست كلّ شيء، فكلّ التقديرات تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، بحيث لا تقلّ في أكثر التقديرات تفاؤلاً عن خمسين ألف روح أُزهقت في الحربِ على الإنسان الفلسطيني، تلك الحرب التي تشنّها إسرائيل والولايات المتحدة معاً.
على ضوء هذه الحصيلة، تدور ما تسمّى مباحثات وقف إطلاق النار في الدوحة، بغياب الطرف الفلسطيني عنها، والتي يصفها مستشار اتصالات مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، بأنّها واعدة، فيما يقول عنها نائب المتحدّث باسم الخارجية الأميركية إنّها مفتوحة من دون الالتزام بسقفٍ زمنيٍ محدّدٍ لنهايتها.
المطروح أميركيًا بكلِّ وضوح استعادة الأسرى من غزّة، وإدخال المساعدات ووقف القتال عدّة أسابيع، ولا أحد يتحدّث عن وقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزّة نهائيّاً، بل إنّ أحداً لا يعتبره عدواناً من الأصل، وإنّما حق يمارسه الاحتلال للدفاع عن نفسه، مع التشديد الأميركي على أنّ الغاية النهائية هي القضاء على المقاومة الفلسطينية، وضمان عدم إزعاج الاحتلال مستقبلًا.
الحاضر الأكبر والمسكوت عنه في هذا المحفل الأميركي الإسرائيلي المُنعقد بحضور رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ورئيس جهاز الموساد الإسرائيلي، مع الوسطاء، مسألة الردِّ الإيراني واللبناني واليمني على الاعتداءاتِ الإسرائيلية أخيراً ضدّ الدول الثلاث الرئيسة في محور المقاومة، ومن ثم يصبح التشديد على عدم وجود سقفٍ زمنيٍ للتوصّل إلى تنفيذ صفقة مُستدعاة من الأرشيف أمراً مفهوماً، في محاولةٍ لتبريدِ الغضب الثلاثي على العدوان الإسرائيلي، وترحيل الردّ المُتوقّع على إسرائيل إلى أبعد فترةٍ ممكنة.
لم يعدْ أحد يتحدّث عن القضيّة باعتبارها حقّ شعب في مقاومة احتلال، بل صار الشغل الشاغل تأمين هذا الاحتلال وتحصينه ضدّ أيّ فعلٍ مقاوم، ومكافأته إن تواضع وتنازل وتعطّف بتخفيف حدّة عدوانه، وتعليقه مؤقتًا، مع منحه حقّ تحديد الوقت الذي يُعاود فيه مهاجمة هذا الشعب المقاوم وارتكاب مزيدٍ من أعمال الإبادة الجماعية ضدّه.
عقوداً طويلة، كان العرب يقبلون على مضضٍ التعاطي مع الصراع، الذي كان يُسمّى الصراع العربي الإسرائيلي، على أساس قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وبالأخص القرار 242 الصادر بعد هزيمة العرب في 1967، والذي نصّ على انسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي العربية المحتلة بعد الخامس من يونيو/ حزيران 1967، وهو القرار الذي كان يعتبره العرب الحدّ الأقصى من التنازل والتفريط في ثوابت القضيّة، والذي جاء بعد عقدين على قرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي نصّ على حقِّ عودة كلِّ اللاجئين الفلسطينيين النازحين نتيجة العدوان الصهيوني إلى ديارهم.
يبدو المشهد الآن وكأنّ النظام الرسمي العربي ما عاد يعترف بقراراتٍ كهذه، أو يؤمن بحقوق الشعب الفلسطيني في البقاء والعودة إلى أرضه وإنهاء الاحتلال، فيما صار النضال الدبلوماسي العربي يستجدي من الاحتلال بعض اللطف في ممارسةِ القتل، وبعض الوقت المستقطع لإيصال كميّاتٍ من الغذاء والدواء للضحايا الأحياء، ودفن الشهداء، فيما لا يبخل كثيرون، ممّن يصفون أنفسهم أشقاء فلسطين، بإمدادِ الاحتلال بما يلزم من كميّاتِ الفاكهة والخضروات، كما تفعل تركيا والأردن، فيما يغضّ آخرون الطرف عن احتلال مساحاتٍ من مفهوم السيادة على الأراضي وانتهاك قيمة الكرامة الوطنيّة، كما في حالة السكوت المصري على احتلال محور فيلادلفيا مقابل شحنات من الغاز الطبيعي.
ما يلفتُ النظر في هذا الاندفاع الأميركي نحو صفقةٍ مبهرةٍ فقرة ثابتة في نهايات حكم كلّ حاكم للبيت الأبيض، بحيث لا يغادر مكانه قبل أن يأتي بحركةٍ هوليووديّةٍ لمصلحة إسرائيل، كما جرى قبل أن يسلّم ترامب السلطة إلى بايدن قبل أربع سنوات بتوقيع قرار ضمِّ إسرائيل إلى القيادة المركزية الأميركية لتكون زميلة وشريكة في حلفٍ عسكريٍ واحد مع عدّة دول عربية، هي الكويت، السعودية، قطر، سلطنة عُمان، البحرين، الإمارات والعراق، وسورية، والأردن، ولبنان، ومصر، مع ما يفرضه هذا الحلف على الدول المنضوية فيه من التزاماتٍ عملياتيّة وتدريبيّة، رأينا جانباً منها في التصدّي للمسيّرات الإيرانية التي هاجمت الكيان الصهيوني قبل بضعة أشهر، وها هو بايدن لا يريد أن يترك البيت الأبيض قبل أن يقدّم لإسرائيل ما يضمن لها استعادة أسراها وسحق كلّ صور المقاومة لها، وتأمينها من ردٍّ انتقاميٍ مُستحقٍ، يُتوقّع حصوله من طهران وبيروت وصنعاء.