إبداعات الرادع الفلسطيني
قتل الاحتلال الصهيوني الطفلة الفلسطينية فلّة المسالمة في اقتحام قواته بلدة بيتونيا في الضفة الغربية، فاكتفت الأمم المتحدة بالتعبير عن الفزع مع طلب التحقيق فيما جرى، من دون إدانة المعتدي في قضية من الوضوح بما لا يستدعي انتظار تحقيقاتٍ لاتخاذ موقفٍ عادلٍ ومحترمٍ منها.
قدّم مبعوث المنظمة الدولية إلى الشرق الأوسط تعازيه الحارّة لأسرة الشهيدة الصغيرة، سعيكم مشكور. لم تفعلها جامعة الدول العربية وأمينها العام أحمد أبو الغيط، كما لم يعد الإعلام العربي مشغولًا بهذه الأمور، ذلك أن 22 عامًا تفصل بين استشهاد الطفل محمد الدرّة واستشهاد الطفلة فلّة المسالمة، المصابة بالتوحد، غيرت أشياء كثيرة، أهمها أن الحلم العربي الذي حشدت الإمارت الفنانين للغناء له، جرت عملية قتله لإحياء الحلم الصهيوني الذي تحتضنه أبو ظبي الآن وتنفق عليه بسخاء.
والوضع كذلك، بات الفلسطيني على يقين بأنه وحده في المعركة، لا أخ ولا شقيق ولا صديق بات مهتمًا بالأمر. لذا انبثق وجه الفتى محمد مراد صوف (18 عاما) كالفجر المبتسم، ليترجّل من قرية حارس قضاء سلفيت، شمال الضفة المحتلة، حتى يصل إلى عمق العدو الذي قتل الشهيدة فلّة، ويثأر للدم الطاهر وينفذ عملية بطولية يحصد بها ثلاثة قتلي من المستعمرين ويصيب عددًا آخر قبل أن يقابل ربه شهيدًا مؤدّيًا الفرض الواجب على أمةٍ نسيت فروضها واغتربت عن ذاتها.
المعادلة بسيطة وسهلة وإنسانية ومشروعة وعادلة: هناك احتلالٌ إذن هناك مقاومة .. هناك شعب مستباح في أرضه ودمه. إذن، هناك وظيفة أساسية لهذا الشعب، هي الكفاح والمقاومة والاحتفاظ بحلم التحرير حيًا في وجدان الأجيال.
تلك هي المسألة، من دون تفلسف أو تقعّر، كل مستوطن هو عدوٌّ مسلّح، لا فرق بين مجنّد في جيش الاحتلال أو أي شخص آخر مسكون بعقيدة استحلال الأغيار وإزاحتهم، إذ لا مدنيين هناك، بل كلهم محتلّون مستعمرون مغتصبون يمارسون إجرامهم كل لحظة، ولا يتخلون عن الحلم بتحرير فلسطين من الفلسطينيين حتى تكون خالصًة لهم وحدهم .
يسطّر محمد صواف بطولته، ويمضي في يوم من أيام فلسطين التاريخية، ففي مثل هذا اليوم الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين ثاني، أعلن المجلس الفلسطيني عام 1988 من قلب العاصمة الجزائر الاستقلال وقيام دولة فلسطين وتشكيل حكومة منفى برئاسة الشهيد ياسر عرفات.
وفي هذا اليوم أيضًا عام 2012 ، استخدمت كتائب عز الدين القسام للمرّة الأولى صواريخ فجر 5 في قصف تل أبيب مدشنة مرحلة جديدة من الردع نمت وتطورت وأينعت وشاهدنا ثمرها البهي في حروب عدة خلال السنوات الأخيرة.
لا يتوقف الفلسطيني عن الإبداع في المقاومة والردع ورد الصاع صاعيْن، بل ثلاثة، غير معترف أو منشغل بذلك الهراء الرسمي العربي المسكوب على موائد المفاوضات والصفقات والتفاهمات مع العدو المحتل، ليفاجئنا كلما استبدّ بنا العجز والخنوع بأنه لا يزال في جعبة المقاومين الكثير من أشكال الردع، وكما فعلوا في العام 2015 حين استحدثوا "ثورة النصال" مدشّنين انتفاضة السكاكين في وجه عدوان مدجّج بكل منتجات آلة القتل والاستئصال الديموغرافي، ها هم يستأنفون الكفاح بسلاح الطعن والدهس للقطيع الاستعماري المسلح الذي يستبيح مساكنهم وممتلكاتهم ونساءهم وأطفالهم وشيوخهم في حماية قوات الاحتلال النظامية.
عرين الأسود لا ينضب معينه، ولا يتخلّى عن إنتاج أشكال جديدة من المقاومة كلما افتتن المعتدي بالقوة المتغطرسة التي يقابلها هذيان الموقف العربي الرسمي، الذي لا يتورّع، ونخبه المرتبطة به، عن إدانة عمليات المقاومة الفدائية، ومساواة الحجر والسكين في يد الفلسطيني بالدبابات والمدافع في يد جنود الاحتلال والمستوطنين، غير منتبهين، أو متجاهلين عمدًا، أن الاحتلال قتل منذ مطلع العام الجاري 35 شهيدا من الأطفال، بواقع عشرين من الذكور و15 من الإناث يشكّلون نحو 30% من إجمالي عدد الشهداء الفلسطينيين في العشرة أشهر الأخيرة.
يقول الفلسطيني باختصار إنه كلما وأد النظام العربي انتفاضة، نبتت انتفاضة أخرى في أرض الألم والحلم بالتحرير، وها هو محمد صوّاف يعلنها قبل أن يرحل شهيدًا.