إجازة مفتوحة
خلال الأسبوع الماضي، شطح خيال مؤثّرين عديدين في مواقع التواصل الاجتماعي العراقية لرسم سيناريوهات التغيير القادم في العراق، بالاستفادة من الهزّة الكبيرة التي أحدثها سقوط نظام بشّار الأسد في دمشق، وهو ما لم يتوقّعه كثيرون. ومع ذلك، يتحدّث هؤلاء بثقة عن حكومة انتقالية عراقية تتشكّل في المنفى، وعن كتابة دستور جديد وملاحقة أفراد الطبقة السياسية العراقية الحالية قضائياً، وإلقائهم في السجون.
آخرون خفّفوا من غلواء الخيال المُجنَّح، وتحدّثوا (بثقة أيضاً) عن ضربات أميركية ستحدث خلال الأسابيع المقبلة، موجّهة ضدّ عدد مرصود مسبقاً من مواقع المليشيات ومخازن أسلحتها المتوزّعة في الأراضي العراقية، وربّما اغتيال بعض القيادات في الفصائل المسلّحة، الأمر الذي يتيح للحكومة العراقية (وأجهزتها الأمنية) أن تزداد ثقةً بنفسها، وتنظّف الساحةَ ممّا تبقّى من هذه المليشيات.
ثمّ تأتي فئة أخرى من المؤثّرين لتخفّض سقف الخيال أكثر، لتتحدّث عن ضغوط تمارسها أميركا على الحكومة العراقية من أجل دفعها الى حلّ هذه المليشيات سلمياً، وتسلّم أسلحتها طوعياً ومن دون مشكلات، وإلّا فإن البديل ربّما عقوبات اقتصادية أو ضربات تأديبية تقوم بها أميركا بنفسها.
يتحدّث فريق رابع (يميل كاتب هذه السطور إلى الانضمام إليه) عن سقف أوطأ بكثير، وربّما هو ليس سقفاً أصلاً، وإنّما شيء يطفو في سطح الأرض بمسافة قريبة، وخلاصة رأيه أن الحكومة بصدد ترتيب اتفاق مع المليشيات لإيقاف عملياتها المسلّحة، ولتأخذ إجازةً مفتوحةً، لا أحد يعلم أمدها.
في الواقع، "حلّ المليشيات" أو إدماجها بالأجهزة الأمنية الرسمية، أو "حصر السلاح بيد الدولة"، من أكثر المفردات فراغاً من المعنى في العراق، بسبب كثرة تداولها على ألسنة رؤساء الوزراء العراقيين منذ 2003. والمتحقّق من هذه الكلمات في الأرض ربّما هو فقط ما حدث في 2008، حين أجبر نوري المالكي (رئيس الوزراء الأسبق) جميع المليشيات على تجميد أنشطتها، تحت ما عرف في وقتها بعمليات "فرض القانون"، ولم يكن ذلك ليتحقّق لولا مساندة ودعم قوّات التحالف الموجودة في الأرض في حينها. حقّقت هذه العمليات للمالكي رصيداً سياسياً كبيراً ما زال يعتاش منه، على الرغم من أنه انقلب لاحقاً على ما صنعته يداه.
كان تجميداً ولم يكن حلّاً، أمّا الإدماج فتحقّق على مستويات متعدّدة، وفي كلّ مرّة كان لا يشمل تفكيك المليشيا بشكل نهائي، وإنّما انضمام عناصر منها إلى الأجهزة الأمنية، وحدث هذا مع المليشيات المعروفة كلّها. ثمّ خلال الحرب على داعش وما بعدها صار هناك تداخل مزدوج، فدخلت قيادات مليشياوية في الأجهزة الأمنية الرسمية، وباتجاه معاكس ذهبت قيادات أمنية وعسكرية لتعطي ولاءها لزعماء فصائل معروفة، حتى صار من الصعب تحديد ما هو الجسم المليشياوي الذي نتحدّث عنه حين نتحدّث عن حلّ المليشيات.
عديد الأجهزة الأمنية وتسليحها أكثر قوة ومنعة من أيّ مليشيا، ولكن هل هي منفصلة على مستوى الوعي والتثقيف الأمني عن وعي عناصر المليشيات؟ وهل يملك القائد العام للقوات المسلّحة الجرأةَ للمغامرة بإدارة حرب أهلية صغيرة لإخضاع المليشيات؟
في الضفّة الأخرى من هذا المشهد، حيث يقف الأميركان وحلفاؤهم، يعتبرون هذا الملفّ غسلاً عراقياً يجب على الزعماء السياسيين تنظيفه، ولن يقوموا (فيما يبدو) بعمليات واسعة النطاق، قد تشعل نيراناً لا تستطيع أميركا السيطرة على حرائقها لاحقاً، أو لا تملك المزاج للتورّط في إطفائها، في الوقت الذي تريد فيه نظاماً سياسياً مستقرّاً في العراق، لا يستدعي أيّ تكاليف جديدة منها.
نظام سياسي مستقرّ بمشكلات ومليشيات (تأخذ إجازات طويلة عند الحاجة)، وإقصاء لفئات اجتماعية عديدة عن دائرة صنع القرار، بمظالم وإساءات ومؤسّسات منخورة، وفساد واسع النطاق، ولكنّه نظام يبدو من الأعلى مستقرّاً مثل سطح بركة راكدة.