إسرائيل تبحث عن انتصار مستحيل
بعد مرور أكثر من 56 يوماً على الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزّة، وأكثر من أسبوع على الهدنة، ومع تجدّد العمليات العسكرية الإسرائيلية، يبدو واضحاً المأزق الذي يواجهه الجيش الإسرائيلي والمعضلة متعددة الأبعاد التي يمكن اختصارها بأمرين: استحالة تحقيق الأهداف التي أعلنتها إسرائيل لحربها، وتتلخص بالقضاء على حركة حماس عسكرياً وسلطوياً، وعدم وجود رؤية إسرائيلية واضحة المعالم لليوم التالي للحرب، والصعوبة المتناهية لإنهاء القتال بصورة انتصار.
خلال أيام هدنة عملية تبادل الأسرى، تبدّدت "الإنجازات" العسكرية التي اعتبر الجيش أنه حققها، وبرزت حقيقة لا لبس فيها، أنه على الرغم من القتل الجماعي والتهجير القسري لم ينجح الجيش في تحقيق الهدف الأساسي، أي القضاء قضاء مبرماً على "حماس" التي ما تزال موجودة في شمال القطاع في جباليا وحي الزيتون والشجاعية، وفي مدينة غزّة أيضاً حيث جرى تسليم محتجزتين إسرائيليتين إلى الصليب الأحمر.
في الواقع، عندما حدد قادة إسرائيل هذا الهدف للحرب على غزّة ووضعوا الخطط العسكرية لتحقيقه، كان يدفعهم أمران أساسيان لا علاقة لهما بالتفكير العسكري: الانتقام والثأر لكرامة الإسرائيليين الذين تعرّضوا للإذلال من خلال الاقتصاص من حماس وسكّان غزّة عموماً. وهم بذلك يعبرون عن شعور الأغلبية المطلقة من الجمهور الإسرائيلي الذي شعر بأن ما جرى في 7 أكتوبر صفعة زعزعت كل ما كان هذا الجمهور يؤمن به بأن لديه جيشا لا يقهر، أقوى جيش في المنطقة، ويملكون أهم الصناعات التكنولوجية المتقدمة وهم رواد الابتكارات. لم ينجح مقاتلو "حماس" في 7 أكتوبر، فقط في تحقيق أكبر اختراق عسكري وأمني واستخباراتي للمنظومة العسكرية الإسرائيلية، بل زعزعوا ثقة الإسرائيليين بأنفسهم، وهم الذين تعاملوا طوال السنوات الماضية مع أهل القطاع بفوقية وتعالٍ وغطرسة، واعتقدوا، على اختلاف فئاتهم، أن في إمكانهم الاستمرار في ممارسة حياتهم العادية والتمتع بالرفاه والازدهار، بينما يعيش على بعد كيلومترات قليلة منهم أكثر مليونين وربع المليون فلسطيني في سجن كبير، إسمه القطاع المحاصر منذ أكثر من 16 عاماً.
"حماس" من نسيج المجتمع الغزّي، وجزء منه، وليست مثل وضع منظمة التحرير في لبنان
الحرب التي أعلنها نتنياهو على "حماس" يؤيدها كل الشعب الإسرائيلي ويدعمها ويقف وراءها حتى النهاية. أما هدف استعادة المحتجزين، الذي لم يذكره نتنياهو في أول إعلان له للحرب، بل أضيف لاحقاً بعد انضمام بني غانتس إلى المجلس الحربي، لم يكن يحتل الأولوية في نظر الجمهور الإسرائيلي في الأسبوع الأول من الحرب، فالأغلبية المطلقة من الإسرائيليين، على الرغم من تعاطفها مع مأساة عائلات المختطفين، وتزايد التأييد الشعبي لتحرّكهم، كانت لا تريد أن تقف مسألتهم في طريق تحقيق الهدف الأساسي للحرب، القضاء على حماس، وطوال فترة تمديد الهدن الإنسانية وتبادل الأسرى، كان هناك تخوّف لدى المجتمع الإسرائيلي من أن يؤدي ذلك إلى وقف اطلاق نار دائم يبقي الوضع من دون حسم عسكري ومن دون انتصار.
في ضوء هذا كله، كان منتظراً معاودة الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية في القطاع، فالمهمة لم تنجز بعد. وعلى الرغم من ذلك، تختلف العودة إلى القتال اليوم عنها في السابق. اليوم يعاود الجيش الإسرائيلي قصفه جنوبي القطاع، في ظل عدة قيود وضعها الأميركيون الذين على الرغم من تأييدهم هدف القضاء على "حماس"، يشترطون عدم المسّ بالمدنيين العزّل. ومعنى هذا أن الجيش سيضطر إلى تنفيذ عمليات محدودة ومركزة تستهدف قيادات "حماس" التي ما تزال في جنوب القطاع، وحيث يوجد أيضاً أكثر من مائة أسير إسرائيلي. وهذا سيكون عملية شاقة ومعقدة وشائكة، إذ كيف يمكن للآلة العسكرية الإسرائيلية المدمرة أن تعمل ضد أهداف عسكرية غير مرئية في منطقة هي الأكثر اكتظاظاً في العالم؟
كما يعاود الجيش الإسرائيلي عملياته القتالية في ظل خلافات في الرأي بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية التي لم تعد تملك ضوءاً أخضر مفتوحاً ومدى زمنياً غير محدد. بالاضافة إلى الخلافات بشأن اليوم التالي وعدم الموافقة الإسرائيلية على أي نقطة يطرحها الأميركيون، بدءاً من رفضهم احتلالا إسرائيليا دائما للقطاع، الذي يقابله رفض إسرائيلي قاطع لأي امكانية مشاركة السلطة الفلسطينية في إدارة قطاع غزّة، من دون الحديث عن رؤية الدولتين غير الموجودة في نظر الإسرائيليين.
لن يكون القتال في جنوب القطاع سهلاً، والأرجح لن يتيح لإسرائيل الوصول إلى صورة الانتصار
والراهن أنه، على رغم كل التصريحات الرسمية بأن الهدف هو القضاء على "حماس"، يبدو أن إسرائيل بصدد إعادة تحديد هذا الهدف بدقة وبوضوح أكبر في ضوء دروس المعركة في شمال القطاع. ويبدو أن هناك قناعة إسرائيلية ضمنية لا يجري الحديث عنها علناً أن القضاء عسكرياً على حماس ليس أمراً ممكن التحقيق في المدى المنظور، ويجب البحث عن مخرج آخر، مثل فكرة خروج قادة "حماس" ومقاتليها من القطاع مثلما جرى لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982. ويبدو هذا مستحيلاً، أولاً لأن "حماس" من نسيج المجتمع الغزّي، وجزء منه، وليست مثل وضع منظمة التحرير في لبنان، ناهيك بصعوبة وجود دولة عربية تقبل باستقبال مقاتلي "حماس" في الظروف الحالية للمعركة التي تخوضها الحركة، وفي ضوء التضحيات الهائلة التي قدّمها سكان القطاع، وحرب الإبادة التي تعرّضوا لها.
في المقابل، هناك اقتراح من "حماس" تعلن فيه استعدادها لإطلاق سراح جميع المختطفين الإسرائيليين لقاء إطلاق جميع الأسرى الأمنيين، ووقف إطلاق نار كامل وانسحاب الجيش من شمال القطاع. وهذا بالنسبة إلى إسرائيل إقرار بهزيمتها.
لن يكون القتال في جنوب القطاع سهلاً، والأرجح أنه لن يتيح لإسرائيل الوصول إلى صورة الانتصار الذي يبدو مستحيلاً.