إسرائيل في "أحضان الحبايب"
لن أفغر فمي دهشةً إن فتحت باب بيتي على طرْق لحوح، يسفر عن ظهور شخصية إسرائيلية رقيعة (أعني رفيعة) خلف الباب، على غرار الرئيس إسحق هيرتزوغ، أو وزير الدفاع بني غانتس، أو رئيس الوزراء نفتالي بينت، فوتيرة غزو هذه الشخصيات العواصم العربية، في هذه الفترة، فاق الحدود، بما يشبه "الفيعان" كأفاعي الصيف، فالأردن مثلاً، شهد زيارتين لم يفصل بينهما غير يوم بين وزير الدفاع والرئيس، في سابقة هي الأولى من نوعها، فقد اعتدنا أن تكون "غزوات" هؤلاء موسمية، تفصل بينها سنوات أحياناً. بينما تشهد عواصم عربية أخرى ما يشبه ذلك أيضاً. والعكس صحيح أيضاً، بدليل أنّ قمة "سلام النقب" التي تصافحت فيها الأيادي و"القلوب" لم يهدأ نقيعها بعد.
والحال أنّ هذا الفيعان الدبلوماسي المباغت بين "الحبايب" يثير أسئلة كثيرة، ولا سيما من حيث توقيته ومراميه، وهل ثمّة للحرب الروسية الأوكرانية المندلعة علاقة به، أم يتصل الغليان بالأخبار المتواترة عن قرب توقيع اتفاق نووي بين الغرب وإيران؟
تحدّث المسؤولون في الأردن عن سعي رسمي للضغط على إسرائيل باتجاه تخفيف حدّة الإجراءات الأمنية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في شهر رمضان؛ ولا سيما في المسجد الأقصى، وعلى المعابر، والحدّ من استفزازات المستوطنين في القدس. كان العنوان الرئيس هو "التهدئة" بين الطرفين، وشمل ذلك الجانب الفلسطيني على الأرجح، من خلال زيارة رأس الدولة لرام الله ولقائه الرئيس محمود عبّاس. وفي "قمة النقب"، غير بعيد عن مفاعل ديمونة النووي، تحدّثوا عن تصميم لا يلين باتجاه التقارب والسلام بين "أبناء إبراهيم"، بحضور العرّاب بلينكن، الذي فضح "الطوابق" كلها عندما رأى أن من شأن هذه اللقاءات الحميمية بين المسؤولين العرب والإسرائيليين أن تعزّز "الأمن الإقليمي" في المنطقة. ولم يفصح عن مقصده بـ"الأمن الإقليمي" هذا، وفي مواجهة من، بل اكتفى بالعبارات الملتبسة، بينما المهمّ جعل إسرائيل عضواً في الإقليم وأمنه، وربما في جامعة الدول العربية أيضاً، إن وافقت هي على ذلك، وليس العرب الذين لا يملكون رفضاً ولا تردّداً حيال طلبات "العشيقة"، بعد أن حذفوا من قواميسهم كلمة "لا".
أمّا خلف الأكمة، فأرجّح أن للفوران سبباً عميقاً يتعلّق بحالة رعب غير مسبوقة تساور قادة الصهاينة هذه الفترة حيال تداعيات الحرب في أوكرانيا، التي سترتّب عالماً مغايراً لن يكون صديقاً مركزيّاً لإسرائيل كما كان عليه العهد سابقاً؛ فإسرائيل تجد اليوم نفسها في حالة إرباك يعبّر عنه موقفها الباهت حيال ما يدور هناك، بدليل عدم حسم موقفها بإزاء الأطراف المتنازعة، مدركةً أن ثمّة متغيّرات دولية ستنشأ في أعقاب هذه الحرب، تتعدّد فيها الأقطاب، ويصعب الانحياز إلى قطبٍ دون آخر، بينما يتزامن ذلك مع محاولات إطفاءٍ ناعم للتهديد الإيراني، متمثلًا بلجم طموحات إيران النووية مرحليّاً عبر التنازل عن شروطٍ كانت تعدّ خطوطاً حمراً في عهد الرئيس ترامب، غير أن أميركا تبدو الآن على استعداد للتوقيع بأي ثمن.
المطلوب، فعلاً، قفز إسرائيليّ إلى الأمام، أعني إلى "أحضان الحبايب" العرب، لإنقاذها من ورطتها، ومن لإسرائيل غير نخوة أنظمة عربية معروفة بأنها لا تتحرّك فعليّاً إلا إلى إسرائيل. المطلوب "تهدئة" شاملة لا تقف عند حدود فلسطين وشعبها ومحتلّها، بل أوسع من ذلك، وهو ما تؤشّر إليه استماتة دول التحالف لجذب الحوثيين إلى طاولات المفاوضة، وإنهاء هذه الحرب العبثية. ومن ثمّ التوجّه نحو تحقيق الإقليم الدامج لإسرائيل ضمن المحيط العربي، عبر "سلق" مراحل التطبيع، وزيادة عدد الدول المطبّعة. وسيكون مثل هذه الإقليم القائم على التحالف الأمني والاقتصادي والعسكري أداة للحيلولة دون الامتداد الإيراني، وكسر طموحات إيران بعيدة المدى بالتسلّح النووي، والأهمّ تحييد الإقليم عن الانحياز للقطب الروسي الصيني إن نشأ مستقبلاً عقب الحرب المستعرة حاليّاً في أوكرانيا.
على نحوٍ كهذا، يمكن إدراك بعض بواعث الفيعان الدبلوماسي المتبادل بين المسؤولين العرب والصهاينة. أما التذرّع بتحقيق "تهدئة" لمصلحة الفلسطينيين الغلابى خلال رمضان، فيكذّبها "نيسان"، ويكذّبها الفلسطينيون أنفسهم بعملياتهم الفدائية أخيراً؛ لأنّهم لم يعودوا يثقون بـ"الإقليم" كلّه، ولا بالنخوة العربية بكلّ شواربها المهترئة.