إسرائيل في السودان
ليست هذه المرّة الأولى التي تطلب فيها واشنطن من الكيان الصهيوني التدخّل في المعضلة السودانية، بحثًا عن حلول سياسية للصراع المشتعل بين اثنين من أمراء الحرب، يتمتّعان بعلاقات دافئة مع الاحتلال.
في أزمة 2019 التي كان فيها الجنرال المتصارعان الآن، عبد الفتاح البرهان وحميدتي، حليفين ضد المدنيين، طلبت واشنطن من إسرائيل لعب الدور الأساس في البحث عن مخرجٍ من حالة الانسداد السياسي التي تخيّم على السودان، حيث كشفت الصحافتان، الأميركية والإسرائيلية، في ذلك الوقت، أن اتصالات أميركية إسرائيلية مكثّفة جرت، وكان محورها الأهم أن يستخدم الكيان الصهيوني نفوذه وعلاقاته العميقة مع جنرالات السودان، للتوصّل إلى حلول لمعضلة الانقلاب العسكري.
هذه المرّة، تطلب الولايات المتحدة من الكيان الصهيوني حلًا لمعضلة النزاع المسلح بين صديقيها المتحاربين، فيما يضيف دليلًا آخر على موت الدبلوماسية العربية، وخصوصًا حين يتعلق الأمر بأزمات بينية بين الدول العربية وبعضها، أو داخل الدولة العربية الواحدة، وهنا ذروة المأساة التي بدأت في التشكّل منذ نصف قرن تقريبًا.
من قبيل السرد المتكرّر، أن دول أفريقيا السمراء كانت، حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، تدير علاقاتها الدبلوماسية وفقًا لمعادلة: إما مصر (ودول عرب أفريقيا) أو الكيان الصهيوني. وبما أن مصر كانت في ذلك الوقت لا تزال تحترم تاريخها وجغرافيتها، وتصون عمقها الاستراتيجي، وتحافظ على انتمائها الحضاري، فقد كانت المسؤولة محسومةً للغالبية العظمى من دول القارّة، فتسلك مع إسرائيل على النحو الذي يحترم الحق العربي ويحتفظ بعلاقات جيدة وراسخة مع كبرى دول القارّة، مصر العربية الأفريقية، داعمة ثورات التحرّر وقبلة المناضلين ضد الاستعمار من كل مكان.
وهكذا، كان السودان هو المدخل العربي إلى العمق الأفريقي الرافض للاحتلال الصهيوني، وحاضرًا دائمًا في المواجهة مع العدو.
ينبع الاهتمام الصهيوني بتفاعلات الصراع السوداني، بالأساس، من أن حسابات تل أبيب تقوم على أن الخرطوم هي نقطة انطلاقها الأساسية للهيمنة على أفريقيا السمراء، إذ تتمتّع بعلاقات تطبيع سياسي مع القاهرة وعلاقات تعاون عسكري واقتصادي مع كل من إريتريا وإثيوبيا، فضلًا عن أطماع إسرائيل الاقتصادية المباشرة في السودان، إذ يتأهّب المستثمرون الصهاينة لغزو الأراضي السودانية الخصبة بالمزايا وفرص الربح الواعدة.
ينطق الواقع الحالي بأن منتهى أحلام الدول العربية في السودان هو إجلاء رعاياها، مثلهم مثل الدول الأوروبية والآسيوية القلقة على رعاياها، والتي يبدو من حركتها الدبلوماسية أنها تقيّم حساباتها على أن السودان في الطريق إلى مستنقع من الاحتراب الأهلي الممتد سنوات، وربما عقودا، وفي الأذهان سيناريوهات سابقة، كما في ليبيا واليمن وقبل ذلك في الصومال ودول أفريقية أخرى، حتى داخل السودان نفسه، وليس ما جرى في جنوبه ببعيد.
تسلك كل الأطراف وكأنها قد استسلمت للمصير البائس، من دون أي محاولةٍ عربية أو إقليمية أو دولية جادّة لتجنب سيناريوهات تطوّر الصراع المسلح وامتداده حتى ملامسة حدود الحرب الأهلية، وما تفرضه قوانينها من بعثرة الجغرافيا، ثم لملمتها في خرائط جديدة على حساب السودان الموحّد.
والوضع كذلك، ليس أمام الشعب السوداني سوى الانتفاض دفاعًا عن حياته، من الاستسلام لحالة الفرجة على انقلابين، كانا في الأساس انقلابًا واحدًا ضد أحلام السودانيين، ثم قرّر كلاهما أن يستحوذ على حصة غريمه من الانقلاب، حيث تختلط المأساة بالملهاة، حين تسمع تاجر الحرب والإبل، محمد حمدان دقلو (حميدتي) يردّد أنه يخوض الحرب ضد انقلاب عبد الفتاح البرهان على إرادة الشعب، فيما يقول الأخير إنه يحارب انقلاب حميدتي على الأمة .. كلاهما يزعم إنه ضد الانقلاب، فيما يقبع الانقلاب نفسه في أحد الأركان يضحك على هذه المسخرة التاريخية، التي قد تمتد وتطول، إلا لو ظهر ذلك المدني الجسور الذي يستطيع أن يوحّد صفوف الشعب السوداني في مواجهة أمراء الحرب.