إسرائيل.. هل هي بداية نهاية الإفلات من العقاب؟
توزّعت الآراء عقب إعلان طلب المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، من قضاة المحكمة إصدار مذكّرة توقيف دولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه وثلاثة من قادة حركة حماس، ما بين مرحبين بهذا الإعلان الذي تأخر كثيراً، وهؤلاء أغلبهم من أنصار الفلسطينيين، لأنهم رأوا في الإعلان بداية تحرّك "الجنائية الدولية" ضد جريمة الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة منذ أكثر من سبعة أشهر، وما بين منتقدي الإعلان، وقد اشترك في هذا الانتقاد قادة "حماس" كما قادة إسرائيل وقادة الدول التي تحميهم، كل لأسبابه الخاصة، ولعل هذا ما كان يصبو إليه كريم خان، من خلال بيانه "المركّب"، أي عدم إرضاء أي طرف، ليظهر بمظهر المدعي العام المحايد والنزيه والموضوعي، وهو أصلا ليس كذلك، كما بيّنت وقائع سابقة في تعاطيه مع جرائم ارتُكبت وما زالت تُرتكب ضد الفلسطينيين، لم يحرّك ساكناً لمواجهتها، على غير دأبه مثلاً عندما تعلق الأمر بصراعات أخرى، منها الحرب في أوكرانيا.
لن نقف عند تأخّر المدعي العام كثيراً في إصدار بيانه، وهو الذي بادر إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جريمة حرب على خلفية الحرب في أوكرانيا في ظرف زمني قياسي، بينما ما زال بيانه الحالي مجرّد طلب، وقد يستغرق اتخاذ قرار إصدار مذكرات توقيف عن قضاة الجنائية الدولية ما بين أربعة إلى ثمانية أسابيع، هذا في حال ما إذا لم يجر رفض الطلبات أو إحداها، رغم أن هذا مستبعد. لكن بالنظر إلى الضغوط السياسية الكبيرة التي تتعرّض لها المحكمة وقضاتها، لا شيء مستبعد. ولو حدث هذا ستكون سابقة تضاف إلى ما سبق من سياسات الكيْل بمكيالين، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، والتي عرّت حرب غزّة الكثير منها وأسقطت عنها أوراقاً كثيرة من التوت الذي كانت تتدثّر به.
وبالرغم من كل الملاحظات التي قد نسجّلها على عدم توازن بيان المدّعي العام الذي لم يربط تحقيقاته بأسباب الصراع عندما قدّم الوقائع كما لو كان الأمر يتعلق بحرب عادية بين جيش دولة وجماعات مسلحة انتُهِكَتْ فيها قواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني. هذا، بالإضافة إلى أنه أسهب في الحديث عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولم يشر في أية لحظة إلى حقّ الفلسطينيين في المقاومة والدفاع عن أرضهم وعرضهم وحياتهم، وهم الذين يتعرّضون منذ أكثر من سبعة عقود لجريمة إبادة جماعية ممنهجة ولتطهير عرقي مستمر، كما لم يورد كلمة واحدة عن حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم باعتبارهم شعباً تحت الاحتلال وأراضيهم محتلة. وحتى من حيث عدد الطلبات ثمّة عدم توازن واضح في توزيعها ما بين إسرائيل وحركة حماس، حيث خصّ المدّعي العام حركة المقاومة الفلسطينية بثلاث طلبات، بينما لم يقدّم سوى طلبين في حق قادة إسرائيل، وظهر الخلل وعدم التوازن بشكل فاضح في توزيع التّهم، حيث خصّ البيان قادة "حماس" بتهم كثيرة وبالتفصيل المملّ بالصفة وعدد الضحايا بالأرقام، بينما استعمل عبارات عامة وجملاً فضفاضة قابلة للتأويل عند الحديث عن الجرائم المنسوبة إلى قادة إسرائيل، من قبيل "استخدام تجويع المدنيين عمداً وسيلة من وسائل الحرب"، و"قتل الفلسطينيين واضطهادهم"، هكذا بدون تفصيل كما نقرأ في الاتهامات الموجهة إلى قادة "حماس"، بينما تثبت الوقائع على الأرض الجرائم الفظيعة التي ترتكبها إسرائيل يومياً ضد الفلسطينيين بالأرقام والأماكن والأسماء والصور التي تنقل على الهواء مباشرة.
صفعة أولى للمجرمين المتغطرسين، وحتى إذا لم تؤذهم، على الأقل أذلّتهم
ومع ذلك، يجب أن ننظر إلى نصف الكأس المملوءة، واعتبار بيان المدّعي العام وثيقة مهمة قد تشكل بداية نهاية إفلات إسرائيل وقادتها من العقاب على جرائمهم التي ألحقوها بالشعب الفلسطيني، منذ احتلوا أرضه قبل أكثر من سبعة عقود، فهذه أول مرّة تصدر فيها اتهامات ضد قادة إسرائيليين، وليس أي قادة، وإنما رئيس الوزراء الصهيوني ووزير دفاعه، وهذا في حد ذاته تحول كبير في نظرة القضاء الدولي إلى إسرائيل التي كانت تُعامل دولة فوق القانون الدولي، وهو ما يدفع إلى الأمل بأن تصدُر اتهامات أخرى مستقبلاً ضد قادة إسرائيليين آخرين مورطين في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
يجب النظر إلى هذه الخطوة، رغم صغرها، قراراً تاريخياً في سجلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لأنها بمثابة اختبار مدى قدرة نظام القانون الدولي على ضمان العدالة للضحايا في فلسطين، وأكثر من ذلك مدى قدرته على إجبار إسرائيل وقادتها ومن يحميهم في عواصم الدول التي تدّعي الديمقراطية على تحدّيه والاستخفاف به، على الخضوع إليه والاستجابة لقراراته. وهي أيضاً اختبار كبير لدور المحكمة الجنائية الدولية واختصاصها القضائي، لرفع سوء الفهم الذي يلاحقها باعتبارها تحوّلت إلى محكمة مختصة في متابعة المجرمين في الدول الإفريقية خاصة والدول الفقيرة عموماً.
ورغم أهمية هذه الخطوة، ستبقى ناقصة في انتظار أن تصدر خطوات أخرى بمواصلة التحقيقات في كل الجرائم التي ارتكبت وترتكب يومياً في غزّة وفي الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر. وأخيراً، كيفما كان تقييم هذه الخطوة، فإنها تعتبر بمثابة ضوء أخضر، في حال صدور مذكرات اعتقال في حق قادة إسرائيل، يرسله قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى زملائهم قضاة محكمة العدل الدولية، قد يشجعهم على الإسراع للحسم في الشكايات التي تقدّمت بها إليهم دولة جنوب إفريقيا مسنودة بعدة دول، تتهم قادة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم تطهير وجرائم إبادة جماعية. فهذه هي الصفعة الأولى لهؤلاء المجرمين المتغطرسين وحتى إذا لم تؤذهم فهي على الأقل أذلّتهم، لأنها المرّة الأولى في تاريخ الدولة اليهودية التي توجه فيها اتهامات من هذا الحجم إلى قادتها، وقد تكون بداية الخطوات على طريق التأسيس لعدالة دولية لا تعرف الإفلات من العقاب.