إسقاط ديون السودان والإصلاح المعكوس
على الرغم من الجهد والتضحيات التي بذلها السودانيون قبل إطاحة الرئيس السابق، عمر البشير، وبعده، وعلى الرغم من تنفيذ التوصيات والتعليمات التي فُرضت على السودان، ومن التعاون مع الجهات الدولية، إلا أنه لم يُرصد أي تحسُّنٍ على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان شطب الديون هو ما تعوِّل عليه السلطات الحاكمة في السودان، من أجل الاستدانة من جديد لتنفيذ إصلاحات، فإن كل تلك المعطيات تجعل التساؤل بشأن إمكانية وجود تغيير أو حتى إصلاح جدّي قائمة وشرعية. ويضاف إلى تلك المعطيات أن تمترس وجوه النظام القديم خلف الموانع المزمنة، والتي تجعل من أي تغييرٍ حلماً بعيد المنال، يدفع إلى الاستنتاج أن تغيير واقع الحال قد يكون مؤلماً أكثر مما يمكن أن يتوقعه المتحكّمون بقرار البلاد.
ابتهج المسؤولون السودانيون، قبل أيامٍ، بفضل قرار نادي باريس للدائنين الموافقة على شطب 14 مليار دولار مستحقة على السودان، وعلى إعادة هيكلة 23 مليار دولار أخرى مستحقة عليه أيضاً. ومردّ هذه البهجة أنهم يعوِّلون على هذا القرار، من أجل الإيحاء بأن تعافي علاقات السودان مع المجتمع الدولي تزداد وتيرتها، مع الأمل الذي يحدوهم من إمكانية انعكاس ذلك على الاقتصاد السوداني، ما يؤدّي إلى تحسُّنه، وإلى ازدياد ثقة المستثمرين بأن بيئة الاستثمار في هذه البلاد أخذت تنضج. غير أن خطواتٍ سابقة كان يعوِّل عليها أفرقاء الحكم في البلاد، من أجل تحسين صورة البلاد في أعين أقطاب المجتمع الدولي، لم تنعكس إيجاباً على اقتصاد البلاد. وكل خطوة من تلك الخطوات كانت تنقضي لتتبعها خطواتٌ أخرى، ومنها ما كان مؤلماً، إلا أن الوضع بقي على حاله ولم يتغير، ولم ينعكس تحسّناً في مستوى معيشة السودانيين على الأقل، فما بالك بتحقيق كل أهداف ثورة ديسمبر (2018) والتي أطاحت البشير، في إبريل/نيسان 2019.
يخشى السودانيون أن تضيع المليارات التي تراهن حكومتهم على الحصول عليها من البنوك الدولية، بعد تنفيذ الإصلاحات التي فرضتها وستفرضها هذه البنوك
اتخذت حكومات السودان السابقة قراراتٍ غير شعبية، من أجل الحصول على رضى الدول الغربية والبنوك الدولية، متناسيةً ما خلفته تلك القرارات من مشكلاتٍ في دول عدة، إذ ساهمت في ازدياد سوء الأوضاع المعاشية بعدما دمرت اقتصادها وإنتاجها، وأوصلتها إلى مراحل أدّت خلالها إلى حصول اضطرابات وثورات ضد حكوماتها. وهذا ما تتبعه الحكومة السودانية الحالية؛ إذ إن القرارات الجديدة التي أوصى صندوق النقد الدولي بتنفيذها، واعتبرها إصلاحات، مشدِّداً على ضرورتها لضمان قبوله إدراج السودان في مبادرة البلدان المثقلة بالديون، وأولها رفع الدعم عن المحروقات، كان لها فعلٌ عكسيٌّ على مستوى معيشة المواطنين، من حيث كان يفترض بالحكومة أن تحسب، خصوصاً بعد التضخم الذي تلا رفع الدعم. لكن هذه الحكومة التي هدفت، منذ بداية تشكيلها، إلى إعادة دمج السودان في المجتمع الدولي، عبر شطب اسمه من القائمة الأميركية للدول التي ترعى الإرهاب، وغيرها من الخطوات، لم تبذل الجهد نفسه، لتنفيذ إصلاحات داخلية، أهمها محاربة الفساد وتمكين القانون وتعزيز الحريات، إضافة إلى معالجة أزمة البلاد الاقتصادية، وإصلاح أجهزة الدولة الرسمية، وهي من مهام الفترة الانتقالية التي نصّت عليها "الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية" المحددة بـ 36 شهراً، والموقعة سنة 2019، والتي لو وجدت طريقها إلى التنفيذ، للمس المواطن السوداني نتائجها مباشرة.
وفي إطار سعيها هذا، أبدت الحكومة تعاوناً مع المحكمة الجنائية الدولية، فسلّمتها بعض المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وتحدّثت عن إمكانية تسليم البشير نفسه، وهو الذي تتهمه هذه المحكمة بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. غير أنها تغافلت أن هنالك متهمين آخرين ليس لديها القدرة على تسليمهم، كونهم متغوِّلين في أجهزة الدولة، ويتقلّدون مناصب سيادية في مجلس حكمها الانتقالي. لذلك، سيكون أي تعاون ناقصاً، ما لم تجرِ تسوية أوضاع هؤلاء. وكانت أكثر خطوة إيلاماً بالنسبة للسودان هي التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما برّره أعضاء مجلس السيادة (الحاكم) بأنه سبيلهم إلى شطب اسم بلادهم من قائمة الدول الراعية الإرهاب، متغاضين عن حقيقة وجود مسؤولين من أقطاب حكم البشير المتهم بالإرهاب في مجلس الحكم هذا. ويبرهن ذلك على أن عدم تسليم هؤلاء دليلٌ على القصور في التغيير والعجز عن تنفيذ الإصلاح الصحيح، بل توسُّلُه من الخارج.
ليس الإصلاح الذي طالبت به ثورة هذا الشعب هو الذي تنفذه الحكومة وفقاً لوصفات البنوك الدولية
يخشى السودانيون أن تضيع المليارات التي تراهن حكومتهم على الحصول عليها من البنوك الدولية، بعد تنفيذ الإصلاحات التي فرضتها وستفرضها هذه البنوك، وبعد إسقاط الديون السابقة، فتجد طريقها إلى سراديب الفساد، مثلها كمثل المليارات التي حصلت عليها البلاد إبّان حكم البشير، ولم تجد طريقها إلى التنمية الحقيقية، ولم تنتشل الشعب من فقره، فليس من ضمانة ألا يرزح السودان تحت أعباء هذه الديون الجديدة في حال الفشل في تسديدها، وألا تُرهن حياة السودانيين ومستقبل الأجيال المقبلة لتسديدها ولخدمة فوائدها إذا ما ضاعت، بدلاً من أن توظّف في مشاريع التنمية التي يحتاجها الشعب لترميم حياته التي دمرها حكم البشير. لذلك نرى أن الشعب سارع، بحساسيته المعهودة تجاه وصفات البنوك الدولية، إلى التظاهر ضد قرارات الحكومة، في 30 الشهر الماضي (يونيو/حزيران)، بعد تنفيذها "الإصلاحات" التي فرضها صندوق النقد الدولي، وطالبوا الحكومة بالاستقالة على إثرها، رافعين شعاراتٍ واضحة ترفض تلك الإصلاحات، ومردّدين هتافات: "لا لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي".
تعرف الحكومة السودانية، ومن خلفها مجلس السيادة (الحاكم)، أن التغيير الذي خرج الشعب السوداني بثورته على البشير من أجل تحقيقه، ليس ذلك الذي تمثَّل بتنصيب العسكر، من رجال الحكم البائد وبعض المدنيين، حكاماً. وليس الإصلاح الذي طالبت به ثورة هذا الشعب هو الذي تنفذه الحكومة وفقاً لوصفات البنوك الدولية. لذلك يمكن لهذه الحكومة وذاك المجلس أن يجد نفسه يوماً، وربما في مقبل الأيام، مع اشتداد وقع الأزمات، في مواجهة الشعب، ليلقوا المصير الذي لقيه البشير. حينها، لن تكون كيانات وأشكال حكم، من قَبيل مجلس السيادة، هو ما سيختاره الشعب لحكمه.