إسلاميّو المغرب والحرب على غزّة
أدّت حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل، منذ أكثر من نصف عام على غزّة المحاصرة والمدمّرة، إلى فرز واضح في المواقف داخل صفوف إسلاميّي المغرب المُجمعين، مبدئياً، على نصرة فلسطين والفلسطينيين. وينظرون، كلٌّ من زاوية قربه أو ابتعاده عن السلطة، إلى إسرائيل أنّها عدوة الأمة، وفي الوقت نفسه، يمكن إبرام الصلح معها، خصوصاً عندما يأتي قرار الصلح بأمر من "أولي الأمر"، وهو ما يضع بعض هؤلاء الإسلاميين في منزلةٍ بين منازل عدّة متفرّقة ومتناقضة، عندما يتعلق الأمر بالتوفيق بين نصرة الفلسطينيين وانتقاد إسرائيل. وفي الوقت نفسه، مراعاة علاقات التطبيع معها التي يفرضها النظام، ومسايرة الرأي العام الجارف الرافض كلّ أشكال التطبيع والتذبذب في المواقف.
في البداية، يجب أن نشير إلى حالة تشكّل استثناءً داخل المشهد الإسلامي المغربي، يتعلق الأمر بجماعة العدل والإحسان، أكبر جماعة إسلاميّة مغربية معارضة للنظام، التي تتبنّى خطاً واضحاً متقدّماً على جميع الهيئات السياسية في المغرب، إسلاميّة ويساريّة وعلمانيّة وليبراليّة، في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وفي رفض التطبيع بكلّ أشكاله، ويرجع لها الفضل في تنظيم أغلب المسيرات الشعبية الحاشدة التي تخرج بشكلٍ شبهِ منتظمٍ يومياً وأسبوعياً في جميع أنحاء المغرب، منذ اندلاع الحرب الإجرامية الإسرائيلية على غزّة، تندّد بالجرائم الصهيونية، وتطالب السلطات المغربية بوقف التطبيع مع الكيان الصهيوني.
أما باقي مكونات الطيف الإسلامي، أو بالأحرى الإسلاموي، في المغرب، فيصحّ فيهم القول القرآني: "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، موزّعين ما بين رفض ما يجري في غزّة من حرب إبادة، لأنّهم لا يستطيعون فعل غير ذلك، بما أنّ عقيدتهم تُملي عليهم رفض قبول العدوان على مسلمين مثلهم، وأيضاً حرصاً على شعبيّتهم داخل بيئة تُعتبر فيها القضية الفلسطينية محطّ اهتمام كبير لدى شرائح واسعة من المغاربة. وما بين الخوف والنفاق ومراعاة مصالحهم، ما يجعلهم يصمتون ويتوارون عن الأنظار أو يعبّرون عن مواقفَ متذبذبةٍ يهاجمون الكيان الصهيوني ويصفونه بأقبح الأوصاف التي يستحقّها، ويسكتون عن استمرار تطبيع سلطات بلادهم معه، بل ويبرّرون صمتها واستمرار تطبيعها.
تتبنّى جماعة العدل والإحسان، أكبر جماعة إسلاميّة مغربية معارضة للنظام، خطاً واضحاً متقدّماً على جميع الهيئات السياسية في المغرب
ويمكن أن نفرّق داخل هذا الطيف بين ثلاث كتلٍ، رغم تمايز مواقعها، إلا أنّها تبدو متجانسةً في مواقفها المتأرجحة والمتذبذبة مما يجري في غزّة. الفئة الأولى إسلاميّو السلطة الرسميون، وغالبيتهم مسؤولون أو موظّفون في مؤسّسات وهيئات دينية رسميّة يتبنون خطاب السلطة ويدافعون عنه من دون حرج، بما أنّهم موظّفون يتقاضون رواتبهم من أجل أداء هذه المهمّة. فهؤلاء موظّفون و"فقهاء السلطة" لا يفعلون إلا ما تمليه عليهم السلطة الوصيّة عليهم، أغلبهم يلوذون بالصمت خوفاً من الاقتراب، ما يثير غضبها ضدّهم وتحرّجاً من تبنّي المواقف التي قد تنعكس عليهم وبالاً وخطراً على مصالحهم ومناصبهم ورواتبهم.
والفئة الثانية، يمثّلها تيار السلفية السياسية و"شيوخ اليوتيوب"، رغم أنّ جلّهم من هذا التيّار، ممن تنتفخ أوداجهم لأتفه الأمور ويزبدون ويرغون لأبسط الأسباب، ولكنهم، في الوقت نفسه، يجدون أنفسهم غير قادرين على رقع أصواتهم لإدانة التطبيع المفروض على الشعب المغربي، والمطالبة بوقفه وقطع كلّ صلات بلدهم بالكيان الصهيوني، فهم مع الفلسطينيين ظاهراً في حدود السقف الذي يعرفون أنّه لن يقلق السلطة أو يثير غضبها ضدّهم، وفي الوقت نفسه، هم ظاهراً أيضاً، على ما يبدو، مع سلطات بلدهم المُطبّعة، بما أنهم لا يجرؤون على الجأر بإدانة التطبيع والمطالبة بوقف كلّ أشكاله أو القول بتحريمه وتجريمه، وهم الذين يفتون في أتفه الأمور، فهؤلاء هواهم مع السلطة أينما مالت يميلون معها مثل "عبّاد الشمس"، مواقفهم غير ثابتة يَطبَعُها النفاق ويضبطها الخوف وتتحكّم فيها المصالح.
أما الفئة الثالثة، فيجسّدها إسلاميّو "العدالة والتنمية"، ومن يسير على نهجهم أو يتعاطف مع خطّهم السياسي المبني على نوع من البراغماتيّة النفعيّة التي تبني الموقفَ على معيار المصلحة أولاً وأخيراً، وخير من يعبّر عن موقف هذه الفئة هو رئيس حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، الذي وقّع حزبُه على اتفاقيات التطبيع، عندما كان يرأس الحكومة، ودافع عنها وهاجم من انتقدها. واليوم، بعدما أصبح خارج الحكومة وامتيازاتها، أصبح يتبنّى موقفاً فيه من المزايدة والابتزاز أكثر مما يحمله من حقائقَ موضوعيةٍ وقِيَمٍ مُطلقةٍ يتعامل معها الحزب حسب قاعدته الخاصة، التي يمكن تأويلها هكذا: "جلب المصالح مقدّم على درء المفاسد"، ومصلحة الحزب اليوم مقسّمة ما بين الحفاظ على التقرّب من السلطة والتزلّف لها لاستعادة ثقتها وكسب ودّها، بإيجاد الأعذار لتخاذلها في مساندة الفلسطينيين، مع تفهّم استمرار تطبيعها مع الكيان الصهيوني، واستجداء عطف الشارع، الغاضب من موقف سلطته التي فرضت عليه تطبيعاً مشؤوماً لم تُشاوره في أمره، والمناصر للقضية الفلسطينية بفطرته البشرية وبحسّه الإنساني وبمعتقده الديني وبقناعاته السياسيّة.
تصحّ في المغرب مقولة "الإسلامويون على دين ملوكهم" على غرار القول المأثور "الناس على دين ملوكهم"
تبرّر هذه الفئات الثلاث مواقفها المتذبذبة مما يجري في غزّة من جرائم إبادة وجرائم ضدّ الإنسانيّة بأنّ رئيس السلطة الدينية في المغرب هو الملك الذي يعتبر "أمير المؤمنين"، بحسب الدستور الذي يكرّس هيمنة الملك على الشأن الديني وعلى السياسة الخارجية للمغرب، وكان يمكن تفهّم هذه المواقف لو كان أصحابها منسجمين مع أنفسهم ويرفضون الخوضَ في أمور تَدخُل في الحقل نفسه الذي يهيمن عليه الملك، لكن عندما تكون مواقفهم انتقائية متذبذبة مراوغة، فهي تكون أقرب إلى النفاق والمزايدة والابتزاز. وعندما سيغيّر النظام المغربي موقفه مما يجري في غزّة، سيغيّرون نبرتهم ويرفعون أصواتهم بما يجاري الموقف الرسمي ويبرّره ويسوّغه. والحال أنّ الموقف المغربي الرسمي بدأ بالفعل بالتململ من المساواة بين الضحية والجلاد في بداية العدوان، إلى التزام الصمت التام طوال أشهر عدّة، قبل الجرأة، أخيراً، على الإدانة الخجولة لما يُرتكب من جرائم، تحت ضغط الإحراج الذي أصبح يفرضه حجم الجرائم وفَظائِعها، وأيضاً بفضل اتساع وارتفاع أصوات الإدانة الدولية لها. وقبل يومين فقط، اكتشف مندوب المغرب الدائم لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، أنّ "الأزمة في غزّة"، (هكذا وصفها من دون ذكر مَنْ سبّبها) أصبحت "لا مثيل لها على الإطلاق" وبأنّها باتت "غير مقبولة"، وكأنّها حدثت للتو، مع أنّها تحدُث منذ 187 يوماً في ظلّ صمت رسمي مغربي وفي ظل استمرار التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني، الذي سبّب هذه "الأزمة" التي اكتشفها للتو أرفع دبلوماسي مغربي يمثّل بلاده داخل أرفع مؤسّسة دولية (!).
ولا غرابة في أن نجد غداً صدىً لهذا التحوّل في النبرة الرسمية في أصوات ممثّلي الطيف الإسلاموي الذين كانوا حتى الأمس القريب يبرّرون ويسوّغون الموقف الرسمي المطبّع مع الكيان الصهيوني، ففي المغرب تصحّ مقولة "الإسلامويون على دين ملوكهم" على غرار القول المأثور "الناس على دين ملوكهم" التي تَؤُول تسويغاً للاستبداد ولمركزيّة السلطة، وتهميشاً لإرادة الشعوب ولمصادرة حُرّيتها في تقرير مصيرها.