إنها الحرب .. إنه القمح
تراجيديا الحرب في أوكرانيا تختلف بحسب العين التي تنظر وتتابع، فبالنسبة للأوكرانيين والشعوب الجارة لهم الشغل الشاغل هو معركة الوجود، سواء في البيوت أو في المخابئ، أو في المهجر إن تصاعدت الكارثة. أما بالنسبة لغالبية الشعوب العربية، فإن الحرب التي يشنّها، فلاديمير بوتين، المسكون بأحلام روسيا القيصرية، هي حبة القمح، ليصبح السؤال الأساس: ماذا نحن فاعلون لكي نحصل على خبزنا؟
قد يتوقف بعضهم قليلًا عند عجائز وأطفال يتخبّطون في الطرقات بحثًا عن مخابئ، وقد تهزّهم صور وجوه غرقت في الدماء، أو أشلاء متطايرة حطام النوافذ، لكن يبقى القمح المستورد من أوكرانيا وروسيا هو القضية الكبرى بالنسبة لهم.
هذا وجه آخر للمأساة التي يعيشها الوطن العربي، معتمدًا في خبزه اليومي على ما يأتي من الخارج، فإن توّجعت أوكرانيا شعر بالجوع، أو بالحد الأدنى عاش في ذعر احتمال الجوع إن توقفت الإمدادات، على الرغم من أن هذا الوطن المنكوب بطغاةٍ يعارك بعضهم بعضًا من أجل مصلحة عدو مشترك، يمتلك قارّة زراعية هائلة اسمها السودان، نقرأ، طوال نصف قرن من الزمان على الأقل، أنها مستودع أحلام الشعوب العربية في وحدة اقتصادية تجعلهم يكتفون ذاتيًا من الغذاء.
قبل اندفاع القوات الروسية لغزو الأراضي الأوكرانية، صاح بعضهم في مصر مطالبًا الحكومة بسرعة تأمين احتياطي ضخم من القمحين، الأوكراني والروسي، قبل أن يجد المصريون أنفسهم في مجاعة. ومع اندلاع المعارك اندلعت بكائيات ولطميات على مستقبل بائس لا خبز فيه، ولا سائحين من روسيا وأوكرانيا، من دون أن يتوقف أحدٌ عند جوهر المأساة التي يمكن تلخيصها في أن بلدًا زراعيًا من الطراز الأول، يمتلك نهرًا هو الأعظم في الكون، وبيئة صالحة لزراعة كل المحاصيل، يعاني فقرًا مائيًا وخرابًا زراعيًا، ليس بفعل الحروب، وإنما نتيجة نظام سياسي فرّط في كل شيء، ثم راح يتسوّل من العالم التدخل لدي إثيوبيا/ لكي لا تخفض حصته من مياه النهر الذي ينبع منها ويمرّ بالسودان قبل أن يصب في مصر.
الحقيقة التاريخية الناصعة تؤكد أنّ التبعية السياسية تستدعي بالضرورة تبعيةً ومهانةً في كل شيء، من نقطة المياه إلى حبة القمح، ومنذ قرّر أنور السادات رهن كل شيء للإرادة الأميركية، منطلقًا فيما سمّي "انفتاح السداح مداح" وفكرة الوصول بمساحات القمح المزروعة محليًا إلى تخوم الاكتفاء الذاتي من المحرمات والجرائم التي تستوّجب العقاب الرادع.
كانت الحجة البليدة في السابق أنّ التوسع في القمح سيستنزف كل حصة مصر من المياه، لكن ذلك، بشهادات خبراء زراعة هو الباطل بعينه، ذلك أنّ زراعة القمح لا تتطلب مياها كثيرة، وعلى حد وصف أحد العاملين في نقابة الفلاحين المصريين، فإن زراعة القمح يطلق عليها الفلاحون "زرعة العاجز"، بالنظر إلى أنها لا تتطلب كثيرا من المياه أو الجهد أو الأسمدة.
زراعة القمح في مصر قصة حزينة ومؤلمة، منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، جوهرها أنه ممنوع التوسّع في زراعة القمح بكميات تكفي المصريين مذلة المعونة والاستيراد بقرار أميركي صارم تخضع له السلطة في مصر، وفي ذلك كتبت سلسلة من المقالات بين عامي 2009 و2010، سجلت فيها نقلًا عن وزير الزراعة، أحمد الليثي، أنّ الاكتفاء الذاتي ممنوع بقرار من أعلى مستويات السلطة، وروى لي قصة بطلها نائب الرئيسي الأميركي الأسبق، آل غور، ونائب رئيس الوزراء المصري الراحل، يوسف والي، ملخص الحكاية أنه في فترة رئاسة بيل كلينتون الولايات المتحدة، كان نائبه آل غور في زيارة إلى مصر، وقرّر أن يسافر لمشاهدة مشروع توشكى على الطبيعة، وسافر إلى هناك يرافقه وزير الري المصري في ذلك الوقت، ولم يكن معهما صحفيون ولا إعلاميون على الطائرة، وحين وصلا سأل آل غور الوزير محمود أبوزيد: ماذا أنتم فاعلون بهذه الأراضي؟ فرد الأخير نخطط لزراعتها قمحًا .. ابتلع آل غور الإجابة، من دون أن يعلّق. وبعد أقل من ساعة من العودة إلى القاهرة، رنّ هاتف الوزير وكان المتصل وزير الزراعة يوسف والي في ذلك الوقت، ولم تخرج المكالمة عن توجيه سؤال غاضب: هل تحدّثت مع نائب الرئيس الأميركى فى زراعة توشكى بالقمح فردّ: نعم. .. فطلب والي، بصرامة، من وزير الري عدم الكلام فيما لا يخصّه بعد ذلك، "بالبلدى كده ما تبقاش تتدخل في اللي مالكش فيه تاني".
فيما بعد، لم يحدُث أن توسّعت مصر في زراعة القمح حتى وصلت إلى ما يعادل من 80% من المطلوب لتحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا في العام 2012 مع تولي الرئيس محمد مرسي الحكم، لكن هذا الإنجاز/ الخطيئة فتح عليه أبواب الجحيم، إذ كان ذلك في فترة التحضير والحشد للانقلاب عليه، وهي الحرب التي استعرت بعد إعلان وزير الزراعة في أبريل/ نيسان 2013، أنه لأول مرة في التاريخ يصل إنتاج مصر من القمح ذلك العام إلى نحو عشرة ملايين طن، وهذا يعنى أننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي.
هنالك جنّ جنون الذين عقدوا العزم على التخلّص من محمد مرسي، فتنوّعت أساليب الحرب، ما بين حرائق بفعل فاعل في صوامع تخزين محصول القمح، وممارسة إرهابٍ على المزارعين لمنعهم من توريد المحصول، وحملة إعلامية مجنونة بلغت تهديد نقيب الفلاحين بالانتقام إن هو ظهر في وسائل الإعلام، وتكلم في زيادة محصول القمح.
من دون أدنى مبالغة، يمكن اعتبار أن تأمين الغذاء ذاتيًا، وبالأخص تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، هو معركة وجود بالنسبة لأي أمة، وكما قلت أكثر من مرّة هو ليس مجرد إنجاز زراعي أو اقتصادي، وإنما يعني أن أمةً قرّرت أن تنبعث من تحت ركام العوذ والحاجة، وأن تمدّ قدميها وتضرب بهما الأرض فتثمر خيرا، بدلا من أن تمدّ يديها تسوّلا واستجداء من هنا وهناك.