إيران تفخر بماضيها وحاضرها وتتصدّى لمن يُبعدها عن محيطها
نشرت صحيفة "العربي الجديد" في عددها الصادر في 10/7 /2023 مقالاً للكاتب عمار السواد، بعنوان "إيران... محنة التاريخ مع الجغرافيا". وأود هنا الإشارة إلى بعض الأمور.
المشكلة التي يقع فيها بعض الكتّاب والباحثين والمحللين السياسيين، حينما يريدون تقييم سياسات الثورة الإسلامية في إيران، سواء عبر مقالاتهم، أو ظهورهم في وسائل الإعلام، يقعون في ورطة حل اللغز الذي يستوقفهم عندما يريدون تحليل الطريقة التي استخدمتها الثورة، ومن بعدها النظام، في المزج بين تاريخ إيران العريق وثورتها ونظامها الإسلامي، وبين سبل تعاملها مع محيطها الذي استخدم أحياناً أساليب عدوانية معها، لأنه تصوّر أنها تشكل خطراً داهماً عليه ويهدّد وجوده، وتلقى هذا المحيط دعماً كبيراً من بعض القوى التي ترى في اختلافات دول المنطقة وتوتّر علاقاتها ما يخدم مصالحها، فراحت تغذّيه وتدعمه بكل ما أوتيت من قوة.
كانت فكرة المؤسّسين الأوائل للثورة الإسلامية في إيران، وفي مقدّمتهم الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني (قدس سرّه) هي تأسيس النظام الإسلامي، والذي دفعهم إلى ذلك أنهم رأوا أن الاستعمار والأنظمة التي وُلدت من رحمه، سواء مع وجوده أو بعد رحيله، وخصوصاً في بلداننا الإسلامية، عاثت في الأرض الفساد، وكان همّها الوحيد نهب ثروات الشعوب، وأن السبيل لتحقيق ذلك العمل على إبقائها متخلفة في كل المجالات، وقمع أية حركة تسعى إلى التحرّر، لذلك وصل مؤسّسو الثورة إلى قناعة بأن الحل في الإسلام، ولكن ليس الإسلام الذي تفصّله الأنظمة حسب قياساتها وتلبسه.
كانت الولادة عسيرة جداً، وكان التحدّي الأكبر هو المزج بين العراقة التاريخية لإيران وتعاليم الدين الإسلامي وبين المواثيق الدولية، وسبل التعامل مع المحيط والعالم، ونجح النظام في حل إشكال العلاقة بين إيران التاريخية والتعاليم الإسلامية، من خلال الاستفتاء الذي أجرته الثورة بعد أقل من شهرين من انتصارها عندما طلبت من الشعب الإيراني أن يبدي رأيه فيما إذا كان يريد جمهورية إسلامية أو لا يريدها، وصوّت 98% ممن يحقّ لهم التصويت بالموافقة على تأسيس الجمهورية الإسلامية، ولم يكتف القائمون على الثورة بهذا الدعم الكبير، بل شكّلوا لجنة لكتابة الدستور الجديد، وطلبوا بعد ذلك من الشعب التصويت عليه، فصوّت 99.5% من المصوّتين على الدستور الجديد. التحدّي الآخر وجود بعض القوانين والمواثيق الدولية، أو بعض قوانين الدول التي تتعارض مع التعاليم الإسلامية، ما استدعى التوصل إلى حلّ بشأنها. والمؤكّد أن الحلّ ليس بركن التعاليم الإسلامية على حساب تلك القوانين، وإنما ترويض تلك القوانين وتطويعها، أو إفهام منفّذيها بأنه لا يمكن تطبيقها في إيران.
بدل أن تحلّ بعض الدول مشاكلها الداخلية، سعت إلى تصديرها إلى الخارج، واتهام إيران بأنها تقف وراءها
ربما كان ذلك كله هيناً ومقبولاً لدى المجتمع الدولي، لو لم تتبنّ الجمهورية الإسلامية شعار "لا شرقية ولا غربية"، حيث تصوّرت بعض الدول بأنه مجرّد شعار لا يخرج عن إطاره، ولكنه، عندما بدأت إيران بتنفيذه واستخدمته ركناً أساسياً في سياستها الخارجية، أثار حفيظة القوى العالمية الشرقية والغربية، لأن الشعار يعني، فيما يعنيه، أنه يرفض أية ضغوط من أية دولة وأية جهة على حساب القوانين والمصالح الإيرانية. وبما أن إيران كانت خاضعة بالكامل للمعسكر الغربي، فقد رأى الغرب أن بقاء الثورة ونظامها الجديد سينهي الوجود الغربي ومصالحه في إيران، فبدأ بعمليات الترويض والتطويع، والتي لم يكن يحدّها ويؤطّرها أي سقف، بل وصلت إلى حد التدخّل العسكري من أجل قلب النظام. وعندما فشل في ذلك، بدأ يحرّض دول المنطقة على الوليد الجديد، ووجد في صدّام حسين ضالّته، وشجّعه على شن الحرب ضد إيران، وقدّم له كل أنواع الدعم بما في ذلك إقناع الدول العربية بالوقوف إلى جانبه، فمنها من قدّم له المال، ومنها المعلومات ومنها الجنود، ومصر أرسلت أكثر من مليوني عامل وموظف من مواطنيها، ليحلّو محلّ العراقيين الذين ذهبوا إلى جبهات القتال ضد الإيرانيين.
بعد أن كان التحالف ضد إيران يقتصر على الغرب وحليف خفي وهو إسرائيل، ظهر تحالف جديد ضمّ نظام صدّام ودولاً عربية، جاهر بعضها بدعم صدّام في حربه ضد إيران، واكتفى آخرون بالدعم الخفي. وكانت الحرب والتحالف المشؤوم بداية المساعي لإبعاد إيران عن محيطها الجغرافي، وكانت الذرائع التي تُساق في ذلك الوقت ذاتها تساق اليوم، وفي مقدّمتها التدخل في شؤون دول المنطقة، وهي الشمّاعة التي لا تزال تتمسّك بها بعض الدول عندما يسألها الإعلام عن سبب عدائها إيران، فتتذرّع بهذه الذريعة الجاهزة. من هنا، لم يكن هناك أي استعلاء من إيران على جيرانها، كما يزعم بعضهم، وإنما سعت دولٌ في المنطقة إلى القضاء على الثورة الفتية ونظامها.
ولم يستمر التحالف المشؤوم طويلاً، فبعد أن وافقت إيران على وقف إطلاق النار أدرك صدّام مدى الفخّ الذي أوقعه الغرب وبعض العرب فيه، بتشجيعه على شنّ الحرب ضد إيران، فقد وجد أن موارد العراق وإمكاناته تبخّرت خلال الحرب، وكل الذين تعهّدوا بدعمه والوقوف إلى جانبه نكثوا عهودهم، لا بل اعتبروا الأموال التي زوّدوه بها ديوناً وعليه دفعها، وبدل أن يقوم صدّام بتأهيل أوضاع بلده وحل مشكلاته وتبعات الحرب، ارتكب خطأ استراتيجياً آخر باحتلاله الكويت ومسحها من الخريطة، ظنّاً منه أن الإدارة الأميركية تسمح له بذلك، إلا أن هذه الإدارة هي التي جيّشت الجيوش ضده، وطردته من الكويت.
لعب انهيار التحالف دوراً في عودة العلاقات بين إيران والدول الخليجية، والفضل الأول في ذلك يعود إلى الموقف النبيل والشهم الذي اتخذته طهران تجاه الدول التي لولاها لما تمكّن صدّام من شن الحرب واستمراره فيها، فقد صفحت عنهم وعضّت على جراحها، حتى إن مستشار الأمن القومي السعودي الأسبق، بندر بن سلطان، قال في مقابلة مع صحيفة "الإندبندنت" نشرتها عام 2019، إن إيران صفحت عنا رغم كل الذي فعلناه بها. ما يشير إلى أن قناعة بعض الحكومات أن طهران تسعى إلى تقويض أنظمتها وتصدير الثورة إليها والتدخل في شؤونها مجرّد تصوّرات وأضغاث أحلام لا حقيقة لها.
عندما تتهم بعض الدول إيران بالتدخّل في شؤونها، فإنها تقصد تحرّكات أحزاب المعارضة لديها، بمعنى أنها مشكلة داخلية بحتة، وليس لإيران أية علاقة بها
وهنا ينبغي الإشارة إلى قضية في غاية الأهمية، تكشف جوهر الموقف السلبي لبعض الدول تجاه إيران، وهي أن النخب في دول المنطقة، وخصوصاً في العراق، بدأت تشعر بضرورة التحرّك والنهوض بالواقع السياسي لبلادهم، والخروج من المظلة الأميركية والبريطانية، وإنهاء التبعية ووضع حدّ للإملاءات من الخارج، وخصوصاً التي تفرض نوعاً من السياسات الداخلية أو طبيعة العلاقات مع الخارج. وبما أن هذه التحرّكات ظهرت مع تأسيس الثورة الإسلامية، فاعتبرت حكومات هذه الدول أن الملهم والنموذج والمثال لكل هذه التحرّكات هي الثورة الإيرانية، ولا يمكن القضاء على التحرّكات من دون السعي إلى القضاء على الملهم لها. وبدل أن تحلّ هذه الدول مشاكلها الداخلية، سعت إلى تصديرها إلى الخارج، واتهام إيران بأنها تقف وراءها. وربما بالفعل تأثرت بعض النخب في هذه الدول بالثورة الإيرانية، ولكن طهران لم تخط أية خطوة تجاه الارتباط بها، أو تنظيم صفوفها وتحرّكها، أو تجنيدها. لذلك عندما تتهم بعض الدول إيران بالتدخّل في شؤونها، فإنها تقصد تحرّكات أحزاب المعارضة لديها، بمعنى أنها مشكلة داخلية بحتة، وليس لإيران أية علاقة بها، بل لا تمانع هذه الحكومات من تدخّل إيران، ولكن بالتنديد بتحرّك الأحزاب، والعمل على إنهاء نشاطها، وهذا ما لن تفعله إيران بتاتاً.
أعلنت إيران، في عام 2003، عن برنامجها النووي، غير أن العدو التقليدي لها، الولايات المتحدة، لم يُقدم على أية خطوة ضد الإعلان؛ لأنها كانت منشغلة باحتلال العراق، ولكي تبرّر احتلالها العراق وبقاءها فيه لنهب ثرواته واستنزاف موارده، ظهرت القاعدة وبعدها "داعش" لتنشر الفوضى في هذا البلد. وعلى الرغم من أن القوات الأميركية أسقطت نظام حزب البعث في العراق، فإن قيادات الحزب قرّرت التحالف مع أميركا و"داعش"، من أجل إسقاط العملية السياسية، وتهيئة الأرضية للعودة إلى السلطة، فأعلن التحالف الجديد، الذي حظي أيضاً بدعم بعض الدول العربية، أنه يريد "قطع أيادي إيران من العراق". وكانت الولايات المتحدة تسعى إلى إيقاف البرنامج النووي الإيراني. وبهذه الحجة، سعت أيضاً إلى إيجاد فجوة أو قطيعة بين الواقع السياسي العراقي وإيران، ولكنها لم تنجح، وبقي الوضع متوتّراً حتى عام 2015، حيث جرى التوقيع على الاتفاق النووي، وشهدت المنطقة نوعاً من الهدوء، حتى جاء ترامب، وانسحب من الاتفاق، وبدأ تنفيذ سياسة العقوبات القصوى ضد إيران. وكانت الأولوية هذه المرّة ليست للبرنامج النووي، وإنما الضغط على كل من يعارض التطبيع وإقامة العلاقات مع إسرائيل، وأطلقوا على المؤامرة الجديدة اسم "صفقة القرن".
وبما أن إيران وسورية ومحورهما يرفضون التطبيع والعلاقات مع إسرائيل، تبلور التحالف الجديد الذي تشكّل من الغرب ومعظم الدول العربية والإسلامية إلى جانب إسرائيل لممارسة أنواع الضغوط ضد من يعارض "صفقة القرن" أو يعرقلها، وكانت الصفقة ترتكز على إقامة علاقات دبلوماسية بين الدول العربية وإسرائيل مقابل إقامة الدولة الفلسطينية، ومع أن بعض الدول العربية أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ولكن لم يجر تأسيس الدولة الفلسطينية، ورحل عرّابا الصفقة نتنياهو وترامب عن السلطة، وانهار التحالف.
وصل مؤسّسو الثورة إلى قناعة بأن الحل في الإسلام، ولكن ليس الإسلام الذي تفصّله الأنظمة حسب قياساتها وتلبسه
مع عودة نتنياهو إلى السلطة، بدأ الحديث من جديد عن التطبيع وإقامة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، إلا أن السعودية استبقت ذلك، وأعادت علاقاتها مع إيران، لتضع حدّاً لأي تطبيع جديد، أو أي تحالف جديد، الأمر الذي دفع كل الذين ركبوا القطار الأميركي والإسرائيلي إلى توجيه سهامهم واتهاماتهم لإيران، ومنذ الإعلان عن عودة العلاقات الإيرانية السعودية، وهم يسعون إلى عرقلة الاتفاق، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
وبهذه القراءة السريعة لواقع السياسة الإيرانية، يمكننا أن نكتشف أن المشكلة في الأساس ليست بين إيران ومحيطها، وإنما كانت، في البداية، مع الغرب الذي رأى أنه فقد موقعاً مهماً جداً في المنطقة بتأسيس الجمهورية الإسلامية، ولذلك سعى، طوال العقود الماضية، إلى استرجاعه بكل السبل والطرق، ثم انضمّت إسرائيل إلى هذه الجهود في ردة فعل على الدعم الذي تقدمه إيران للقضية الفلسطينية. أما سائر الدول فمغلوبة على أمرها، ومضطرّة إلى المشاركة في هذا التحالف أو ذاك ضد إيران، لأن الضغوط التي يمارسها الغرب، وخصوصاً أميركا كبيرة جداً عليها. وبذلك يتضح لنا أن الذين يهاجمون إيران في كتاباتهم أو ظهورهم في وسائل الإعلام ينقسمون إلى: قسم يساير الموجة، وينقل ما تنشره وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ولا يتثبّت من ذلك مطلقاً، مدفوعاً بميوله العاطفية أو القومية أو الدينية، ويشعر أنه انتصر لمشاعره أو لمذهبه ودينه أو لقوميته إذا هاجم إيران وركب الموجة. وقسم مرتبط بالكامل بالمشروع الغربي والإسرائيلي وأجهزة المخابرات، وينفّذ أجندتهم، ولذلك لا يتوقّف عن كيل الاتهامات وترويج الأكاذيب ضد إيران، حتى أصبحت العلاقات الإيرانية العربية سمناً على عسل. والسبيل الوحيد الذي يوقفهم عن المضي في غيهم أن توقف الولايات المتحدة وإسرائيل مؤامراتهما ضد إيران، أو أن تعيد إيران علاقاتها مع أميركا وإسرائيل، وهذا مستحيل.