ابتذال حكومي
فجأة، من دون سابق إنذار، ألقت وزارة الداخلية العراقية القبض على مجموعة من "نجوم" مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يسمّون عادة "البلوكرية" أو "الفاشنستات"، بدعوى ترويج "المحتوى الهابط". ومن المثير أن من بين المعتقلين شخصيات نسائية كانت قبل أيام جزءاً من الماكينة الترويجية على مواقع التواصل الاجتماعي لفعاليات خليجي 25. وهو ترويجٌ اعترف المعنيون بالشأن الرياضي في الحكومة بأنه كان بإشرافهم وتمويلهم. ويثير هذا التناقض في الأداء الصادر عن الأجهزة المختلفة للحكومة العراقية الاستغراب، لكنّه ليس مصدر الغرابة الوحيد.
سريعاً، خلال ساعات، صدرت أحكام قضائية بالسجن سنتين على واحد من هؤلاء الناشطين، ثم ستة أشهر على فتاة كانت قد اشتهرت، منذ أسابيع، بسبب طريقة دخولها الغريبة، والاستثنائية، بسيارة تابعة لحماية الشخصيات، إلى مدرجات ملعب جذع النخلة في البصرة، مستفيدة من امتياز علاقتها مع مسؤولين نافذين في الدولة العراقية. الأمر الذي أدّى إلى موجة انتقادات في مواقع التواصل العراقية، تستهدف فساد المسؤولين والمؤسسات الحكومية، التي تستثني فئاتٍ معيّنة من تطبيق القوانين، لأغراض شتّى، أبرزها "العلاقات الخاصة" التي باتت غير خافية، التي تقيمها فتياتٌ نشطاتٌ على مواقع التواصل مع مسؤولين ورجال نافذين في الدولة.
يرى معنيون بالشؤون القانونية كثيرون أنّ القرار الصادر من مجلس القضاء الأعلى، والذي جرت على ضوئه هذه الاعتقالات المستمرّة، يرتكز على مادة من قوانين نظام صدام البائد، هي 403 من قانون العقوبات العراقي، والتي تشير، بصراحة، إلى معاقبة مروّجي المواد الإباحية، وهذا غير متحقّق حالياً، فالقرار الصادر من مجلس القضاء الأعلى "توسّع" في دلالة الإساءة إلى الذوق العام، ليشمل حتى "الإساءة إلى مؤسّسات الدولة بمختلف العناوين والمسمّيات"، حسب نص الإعمام (التعميم) الذي وقّعه رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهذا التعريف في الحقيقة هلامي غير محدّد، يثير مخاوف المدافعين عن الحرّيات والحق في التعبير والنشر، فمن الممكن استخدام هذه المادة لاعتقال معارضي الحكومة، أو للتضييق على مساحات التعبير الموجودة، من خلال التخويف باستخدام هراوة القانون، وهو أمر فعل فعله عند كثيرين من نجوم تطبيقات مثل "تيك توك" أو "سناب شات"، فحذفوا المواد المنشورة في حساباتهم، وأعلنوا اعتزالهم أي نشاط، خشية من أوامر القبض.
تحت التهمة الضبابية بترويج "محتوى هابط"، جرى اعتقال شاب من أهالي ميسان، يقدم مقاطع كوميدية على "السوشيال ميديا"، هو "عبود سكيبة"، رغم أنه لم يقدّم محتوى يسيء إلى الذوق العام. وبعد حملة ضغط إعلامية استمرّت يومين، أخلي سبيله بكفالة.
هناك ألف سبب يدفع المتابعين، خصوصاً الناشطين المدنيين والإعلاميين والمثقفين، للنظر بعين الريبة والشك إلى هذا القرار القضائي وتداعياته، فهو قرارٌ لا يبدو أنه أخذ وقته الكافي من الجدال والنقاش في الفضاء العام، ولم تقدّم أي حجج منطقية لنوع التفسير الذي قدّمه لمسمّيات مثل "المحتوى الهابط" أو "خدش الحياء العام"، ولدى قانونيين كثيرين ملاحظات عديدة عليه.
يعاني المجتمع المدني العراقي أصلاً من تراجعٍ في الحريات، قياساً بالوضع ما قبل عشر سنوات مثلاً، وكان أقسى ما حصل اغتيال الصحافيين والناشطين في الأعوام الثلاثة الماضية، من دون أن يؤدي القانون واجبه في التحقيق حول هذه الجرائم والكشف عن الجناة. والخشية اليوم أن الحكومة التي تسيطر عليها جهات وأطراف لها يد في كلّ عمليات التصفية السابقة لمعارضيها، من الناشطين الشباب والإعلاميين، ستستخدم القانون الجديد لملاحقة أي أصوات معارضة متبقيّة، خصوصاً أنّها ذهبت عن عمد إلى الخاصرة الرخوة، فأغلب الأسماء التي اعتقلتها تحصل على تفاعلاتٍ سلبية في التغطية الإعلامية، ويوصف أصحابها عادة بالابتذال واستخدام ألفاظ فاحشة في مقاطع الفيديو التي ينشرونها. ولذلك، افترض صانع القرار الحكومي أن المجتمع لن يعترض على مذكّرات الاعتقال هذه، وأن النخب الإعلامية ستقف في صفّه. وفوجئ بردّة الفعل التي تبدو كأنها تدافع عن صنّاع المحتوى هؤلاء، وليست اعتراضات، كما هو واقع الحال، على التعسّف في استخدام القانون، وتطبيقه بصورة انتقائية، وهو الأمر المخيف بالموضوع كلّه.
الأخطر أن الحكومة تلعب على المشاعر الشعبية، وتحاول أن تستخدم هذه القرارات وسيلة لكسب شعبية وشرعية في المجتمع، بقراراتٍ تداعب غرائز الإقصاء والكراهية والحسد والتنمّر، وهذا مسلك الأنظمة الديكتاتورية، ولا يليق بنظام يدّعي أنه ديمقراطي، ويأخذ السلطة إلى مسار الابتذال و"الهبوط" الذي تدّعي أنها تحاربه.