احتفال بلغة الضاد تنمّرا .. في الجزائر
من المفارقات، في جزائر هذه الأعوام الأخيرة، أن كل شيء قابل للتسييس، حتى مجرّد الاحتفال بلغة الضّاد، باعتبار أنها من روافد حفظ هوية الجزائريين، إلى جانب الأمازيغية، والمكون الروحي، وعمود ذلك كله الإسلام. نتحدّث عن هذا وكلنا أسف لما آلت إليه الأوضاع، فقد اتخذ بعضهم من هذا اليوم مطيّة للتنمّر على من يسمّونهم أعداء اللغة العربية، ويطلقون عليهم مسمّيات ويرسمون لهم صفاتٍ هم أبعد عنها، لأنهم لم يكونوا، يوما، أعداء للغة الضّاد، بل هم من عمل، بكل ما أوتوا من قوة، للحفاظ عليها. وهذا موضوع المقالة، فتحا للأعين وإخراسا للألسُن التي تنطق بما لا تعرف، وتهرف بكل ما تظن أنها تعرف.
بداية، كفى الجزائريين تسييسا لكل القضايا، وليبحثوا عن قواسم تقيهم القواصم، وبلدهم ما يكاد يرفع رأسه من أزمة حتى يقع في أزمات ليعود فيرفع رأسه منها، لأنه دأب على العيش في تحدّياتٍ يحاول، على الدوام، الاستجابة لها. ولعل أفضل من فهم هذه الدورة اللامتناهية من التحدّي والاستجابة مالك بن نبي، عندما انطلق من تجارب البلاد المريرة ليرسم معالم العروج الحضاري من جملة المطبّات التي ما فتئ الجزائريون يقعون فيها على مر التاريخ، حيث تحدّث عن رياح تموج بخط بياني لحضارة يأتي عليها يوم تخفت، لتخلفها ريح أخرى، تصنع دورة جديدة للحضارة بين تحدّ واستجابة في تناغم تام مع مبدأ لم يكن هو من اخترعه (التحدّي والاستجابة)، بل نظيره البريطاني، المؤرخ الفذّ أرلوند توينبي، ولكن مالك بن نبي وجد أنّه يناسب الحالة الإسلامية، عموما، والجزائرية، فاستلهمه، وعمل على توصيف الدورة الحضارية به، بل جعله، رفقة ثلاثية الإنسان/ الزمن/ التراب، إضافة إلى الدّين، مفعولا منتجا للفعل ثم العروج الحضاريين.
لماذا ديدن الجزائريين التسييس لكل القضايا، ولماذا روح الاستقطاب هي محرّك الفعل عندنا؟
انطلاقا من هذه التوطئة، لماذا ديدن الجزائريين التسييس لكل القضايا، ولماذا روح الاستقطاب هي محرّك الفعل عندنا، إن وُجد، طبعا. وحتى في الاحتفالات، نعمل العاملين، وننسى أن المسألة لا تتعدّى مجرّد تنوع لغوي، بل ثراء يعطي للهوية روافدها التي كتب عنها المعرّب، كما كتب عنها المفرنس، وكلاهما محب للوطن، ومنافحٌ ومدافعٌ عن قضاياه؟ نقول هذا، وكلنا أسف على ما قرأناه لجزائريين في وسائل التواصل الاجتماعي من تنمّر بالمفرنسين، أو بمن يعدّون أعداء للغة العربية من أبناء منطقةٍ بعينها، وكأنما هؤلاء من أردى الجزائر إلى ما هي عليه من حالة متردّية.
كيف لا تغضب، وأنت تقرأ أن الاحتفال بلغة الضاد مناسبة للكشف عن الأعداء، أو أنّ الاحتفال ذاته شوكة في حلق من يقف ضد لغة الضّاد؟ وقد انبرى بعضهم ليسأل هؤلاء عن الأعداء من هم، وعن الشّوكة هي في حلق أيٍّ من الجزائريين، لأنّ الجميع، المتحكّم في لغة الضاد أو المفرنس، منهم، مجمعون على مركزية اللغة العربية في الهوية الجزائرية، أقله بقراءتهم القرآن أو بصلاتهم بها وسماعهم خطب الأئمّة في الجمع والأعياد ويصدحون بوصايا الدين بلغة الضاد.
كتب المتـأسفون لهذا الوضع المتردّي، ليس ردّا، بل توضيحا للمتنمّرين، بأن من تمّ توصيفهم بتلك الأوصاف، وخصوصا من أبناء تلك المنطقة، بعينها، هو من دافع عن لغة الضاد، وذكروا لهم أمثلة الوزير الأسبق بلقاسم نايت بلقاسم وأرزقي فراد وغيرهما ممن تطول القائمة بذكرهم، وأثروا المكتبة العربية بكتاباتهم، تماما مثل ما أسهمت المنطقة، بزواياها القرآنية، في زمن الاستلاب الاستيطاني الهوياتي الفرنسي، في الحفاظ على هوية البلاد من المسخ، ودفعت، من أجل ذلك، الثمن غاليا من أبنائها ممن تم قتلهم، بالآلاف، وتهجيرهم، بل نفيهم، إلى مناطق بعيدة، منها كاليدونيا الجديدة في المحيط الهادئ، في أعقاب مقاومات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وصولا إلى جمعية العلماء التي أنشأها عبد الحميد بن باديس الصنهاجي، والتي أسهمت في إذكاء روح الإصلاح في الهوية الجزائرية، نتجت منها ثورة التحرير المباركة واستقلال البلاد، في 1962، بعد 132 سنة من الاستلاب الهوياتي.
غريبة أطوار المتنمّرين، وكأنّهم يملكون زمام لغة الضاد، فيستأثرون بها من دون غيرهم
كما أضاف المتأسفون، إلى توضيحاتهم تلك، إشاراتٍ إلى إسهامات المنطقة في الدفاع عن إشكالات البلاد بكل ما أوتوا من قوة ووسائل، وإن بالفرنسية أو الأمازيغية، ولكن في إطار اللحمة الوطنية الجزائرية، منبهين إلى أنّ فرنسا هي من استخدمت مبدأ "فرّق تسد" بين أبناء الجزائر، لتجعل منه جسرا تمرّر، من خلاله، استراتيجياتها الخبيثة التي يبدو، من خلال التنمر المشار إليه، أنّها قد نجحت في الإبقاء عليه أداةً للتّحريش بين أبناء الوطن الواحد. وفي الأخير، وضّح المتأسفون على حالات التنمّر أنّ المفرنسين كانوا، هم أنفسهم، ضحايا الاستلاب الهوياتي، ولكنهم كانوا وطنيين، وذكّر هؤلاء بمالك بن نبي، محمّد ديب، آسيا جبار، وغيرهم ممن لم تكن لديه إلاّ الفرنسية وسيلةً للتعبير ليستخدموها، ولكنهم نجحوا في وصف الممارسات الاستيطانية الفرنسية بل فضحها، ولعل حرمان آسيا جبار ومحمّد ديب من جائزة نوبل للآداب كان من تداعيات ذلك العمل الأدبي الرفيع، ولكنه الفاضح لفرنسا وتاريخها الإنساني والحضاري في بلادنا، وفي كل شبر أرضٍ احتلته.
أمّا أبناء تلك المنطقة التي وسموها بالدشرة، فإنهم، زيادة على اسهاماتهم، عبر التاريخ، في الحفاظ على هوية البلاد، فانهم عانوا كما عانى كل الجزائريين من ظلم الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وحاولوا، من خلال الحفاظ على الهوية الأمازيغية، ليس تمزيق البلاد، بل العمل بجزئيات الهوية الجزائرية لإثراء هذه الهوية وإعلاء مكانتها في إطار تعدد روافد تلك الهوية، ولكن داخل جسم الجزائر الواحد الغني والثري بكل أبنائه. هل يضرّ أن تتحدث العربية والأمازيغية، بل وتتحكم في الفرنسي، فتكون غير وطني؟ وهل سماعك لأغاني آيت منقلات، معطوب، الحاج العنقة، العنقيس، الحسناوي، مسعودي، حمادي، إيدير، عزام، علاوة و نورة، يضرّ بوطنيتك؟
كيف لا تغضب، وأنت تقرأ أن الاحتفال بلغة الضاد مناسبة للكشف عن الأعداء، أو أنّ الاحتفال ذاته شوكة في حلق من يقف ضد لغة الضّاد؟
غريبة هي أطوار هؤلاء المتنمّرين، وكأنّهم يملكون زمام لغة الضاد، فيستأثرون بها من دون غيرهم، وكأنهم لا يعلمون أن أبناء تلك المنطقة، بينها، يعلمون من الشعر ما يمكّنهم من مباراتهم في التحكّم بلغة الضّاد، فهم يعرفون المتنبي وشعره، لكنهم يتغنون بشعر سي محند أومحند، ويرفعون رؤوسهم بكتابات مولود معمــــري وكاتب ياسين، ولا ينسون مولود فرعون الذي قتلته أيادي الغدر الفرنسية في 1961، في العاصمة الجزائرية.
أنهي الجميع كتاباته تلك، المتأسّفة على التنمر، بتذكيرهم بفضل لغة الضاد، وبأنّهم لم يساهموا قط في قرار إبطال تعميم استعمال اللغة العربية، كما أوصوا بوجوب الاجتماع، اجتماع الكلمة على تعدّد روافد الهوية، ولكن في إطار من اللحمة والانسجام الوطنيين المجتمعيين، في جزائر نافح عنها الجميع، وينعم بخيراتها الجميع، وهي للجميع.
.. الزوايا التي تصدح بتحفيظ القرآن تلزم الطلبة، كلهم، بحفظ متن ألفية ابن مالك التي نحفظها عن ظهر قلب. .. هل يحفظها أو قرأها حتى من يتنمّر؟ هل قرأ الواحد منهم شرحا لتلك الألفية؟ مجالس العلم، في تلك المنطقة، تلزم حافظ القرآن بحفظ متون للغة، لو ذكرنا عناوينها لما كفتنا الصفحة والصفحتان.