احتلال الشعار وشعار الاحتلال
معظم كلمات الوفود العربية أمام مجلس الأمن في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني عبّرت، بصياغاتٍ مختلفة، عن أنّ منتهى أمل العرب الرسميين هو الضغط على الكيان الصهيوني، للقبول بدولة فلسطينية إلى جانبه، أو في حضنه، لكي يعيشوا في أمان وطمأنينة، وتبات ونبات، على طريقة حواديت الصغار.
جرّب العرب هذا الاستجداء كثيرًا طوال أكثر من 50 عامًا، ولم يُفض إلى شيءٍ سوى أنّ الاحتلال بات يُجاهر بضيقه ذرعًا بالوجود الفلسطيني على أرض فلسطين المحتلة، ويدفع باتجاهٍ مضادٍّ للضغط على الفلسطينيين للقبول بفكرة تهجيرهم وتوزيعهم، وفق حصصٍ لا يخفيها، على دول عربيةٍ وإسلاميةٍ، وكأنّهم مجموعة من العبيد يقدّمون هدايا أو منحًا أو رشىً لدول مأزومة ماليًا نظير إقالتها من عثرتها.
منذ أن فرض المهاجر الألماني اليهودي، هنري كيسنجر، هيمنته على السياسة الخارجية الأميركية في سبعينيات القرن الماضي، وحتى مات أمس، والعرب لا يغادرون تلك المساحة البائسة من الفكر السياسي الحاكم، والتي تقول إنّ لا حلّ لقضية فلسطين سوى تسوّل الضغوط من الإدارة الأميركية على إسرائيل على أساس أنّ 99% من أوراق اللعبة بيد واشنطن، كما قال أنور السادات مدشّنا استعمال ذلك الوهم المخدّر الذي يتعاطاه النظام العربي منذ "كامب ديفيد" الأولى، والذي كانت نتيجته وضعًا كارثيًا تريد فيه تل أبيب أكثر من 99% من أرض فلسطين.
لم يتعلّم العرب من تجارب هذه السنوات الخمسين أنّ من العبث تصوّر أنّ واشنطن يمكن أن تكون وسيطًا محايدًا ونزيهًا في معادلة الصراع، إذ تنطق كلّ الوقائع منذ كيسنجر قبل حرب أكتوبر (1973) وحتى بلينكن في عدوان 2023، أنّ الخارجية الأميركية سلاح وأداة بيد إسرائيل تتحرّك في الاتجاه الذي يريده الاحتلال، ليس لاعتبارات المصلحة السياسية، وإنّما هي عقيدة راسخة في الفكر الأميركي الحاكم، والذي هو أكثر صهيونية من فكر الصهاينة أنفسهم، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركية مع بدء العدوان، حين أعلن أنه في إسرائيل باعتباره يهوديًا، قبل أن يكون دبلوماسيًا. وفي الأمر نفسه، ذهب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى ما هو أبعد منهن منذ كان موظفًا صغيرًا في الإدارة الأميركية، حين وقف في مجلس الشيوخ، بعد عودته من زيارة إلى إسرائيل في منتصف عام 1973، قائلا إنّه "لو لم توجد إسرائيل، لتعيَّن على الولايات المتحدة إيجادها". ثم أتبع ذلك بمقولته الأشهر "لا حاجة لأن تكون يهودياً كي تكون صهيونيًا".
هذه الوضعية من الاستخزاء والاستجداء العربيين جعلت الكيان الصهيوني يصل بالبجاحة والغطرسة إلى حدّ احتلال (ومصادرة) الشعارات الفلسطينية والعربية ذائعة الصيت منذ العام 1984 واستعمالها لحسابه، مثلها مثل الغاز والبرتقال والزيتون وكلّ تجليات التراث الفلسطيني، فصار نتنياهو ومجموعة الجنرالات القتلة يعلنون في مؤتمراتهم أنّ هذه الأرض لا تقبل القسمة على اثنين، إما نحن أو هم، إلى آخر هذه النوعية من شعاراتٍ ارتبطت بالصعود القومي العربي في ستينيات القرن الماضي، حين كان النظام الناصري يكرّس في وعي الأجيال مقولة "كل فلسطين لنا والاحتلال إلى زوال".
إذن، كلّما تنازل الخطاب الرسمي العربي أكثر ازداد الصهيوني وقاحة في صياغة شعارات احتلاله، أو بالأحرى في احتلال شعاراتنا، ولم لا؟ وأقصى ما يمكن أن يفعله النظام العربي الآن هو استئذان إسرائيل، بكلّ أدب، لكي تسمح بوجود فلسطيني معها، الآن، وكأنّهم يرحّلون القضية إلى المستقبل البعيد، إلى أن يأتي جيلٌ آخر يتحمّل المسؤولية.
غير أنّه ليس النظام الرسمي العربي فقط الذي ينحني أمام شعار الاحتلال أو احتلال الشعار، بل بات نفرٌ من المثقفين، كبارًا وصبيًة، يمرحون في الفضاء العام ببضاعة فكرية متحلّلة تؤاخذ الشعب الواقع تحت الاحتلال المسلّح على تبنّي المقاومة المسلحة بوصفها أداة، بل هي الأداة الأمثل للبقاء على الحلم بالتحرير، حيًا وعابرًا للأجيال، ثم يعطون المقاومين دروسًا بلهاء في كيف يكون الانتصار وماذا يكون، وكأنّ شهادات الشعب الصامد أكثر من 50 يومًا أمام الترسانة العسكرية الأميركية الإسرائيلية لا تكفي لإقناع المأزومين المهزومين نفسيًا بأنّه لا يوجد شعبٌ على مدار التاريخ يحتفل بهزيمته.
مشاهد احتفالات الفلسطينيين بصمودهم هي تعبير صادق عن فرحة حقيقية بانتصار حقيقي.. انتصار على الخوف، وعلى العجز، وعلى البلادة، وهذا ما يضايق بلداء الروح كثيرًا.
قالها محمود درويش: قد يكسرون عظامها. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها في البحر أوالرمل أو الدم، ولكنها لن تكرّر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم. وستستمر في الانفجار. لا هو موت ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة..
هذا ما لا يفهمه المأزومون، أو يفهمونه فتتفاقم أزمتهم.