احذروا المؤامرة
الأرض ليست دائرية، إنها مسطّحة. الإنسان لم يصعد فعلياً إلى القمر، ولم تطأ قدم أرض الأخير. اللقاحات ضد وباء كوفيد معدّة فقط للسيطرة على عقول الناس، من خلال إدخال شريحة نانو غير مرئية في عقولهم. أحداث 11 سبتمبر لم تقع، إنه فيلم هوليوودي تمّ إقناع الناس بحقيقته. فيروس الإيدز تمّ تصنيعه في مختبر أميركي ونشره بين المثليين. الصحون الطائرة موجودة فعليا، وثمّة تواصل مع كائنات فضائية تهبط من أكوانٍ أخرى لتخطف بعض المختارين. مايكل جاكسون لم يمت، مثل ألفيس بريسلي من قبله، فقد تمت رؤيته في أمكنة عديدة من العالم يتنقّل تحت جناح السرّية. الدليل؟ تقصدون الأدلّة! المطلوب فقط أن تكون عقولكم مرنة لتلجوا الحقيقة: هناك مؤامرة عالمية معدّة منذ زمن، للسيطرة على شعوب العالم من قبلهم. من هم؟ مجموعة صغيرة من أكبر المتموّلين وأهل النفوذ والسلطة. كيف لم يتمّ فضحهم إلى الآن؟ لأنهم يملكون وسائل الإعلام، ولديهم جيش سرّي من المروّجين لحقائق موهومة مدعومة بأدلّة مفبركة باحتراف..
أتباعُ فكرة المؤامرة الكونية ليسوا أناسًا جهلة، غير متعلمين، أو يعيشون في مناطق نائية بعيدة عن المركز. إنهم أناسٌ اعتياديون مثل الملايين سواهم. هم فقط يَحيون الأحداثَ الصادمةَ والمؤثّرةَ بطريقة أخرى، فلا يُقيمون اعتبارا للوقائع أو الحقائق كما هي، وإنما فقط كما يرونها، أو حينما تستجيب لاعتقادهم الراسخ بأن الحقيقة مخفيّة بإرادة "نخبة ما". هناك نوع من الكبت يخلّفه التشكيكُ في حقيقةِ كلّ ما يُعلَن بشكل رسميّ. لماذا؟ لأن هناك نزوعا لدى الإنسان على ما يبدو إلى جنون الارتياب أو البارانويا. ثمّة من يريد بنا شرّا. ثمّة من يتآمر علينا سرّا. ثمّة من يريد إخضاعنا والسيطرة علينا وتسييرنا بحسب إرادته. في ذلك يقول المفكّر الفرنسي، بيار أندريه تاغييف، إن الاعتقاد بوجود مؤامراتٍ يستجيب لفكرة أن عدوّا خفيّا وشريرا يقف وراء شقاء البشر وعذاباتهم. وربما كان الناس يخترعون بذلك الأبالسة والشياطين التي خلا العالمُ منها، معيدين إليه بعضا من سحرية مفقودة.
من يصدّق نظريات المؤامرة يُعمل مخيّلته ويذهب بها بعيدا. يأتيك ببراهين وأدلّة لا يستوعبها العقلُ، إن لم يتخلَّ عمّا يُمليه العلمُ والمنطقُ والعقل. إنها أشبه بعملية إعادة تأليف وتخييل، مبنية على حدث واقعي، مع مسار مختلف وموجّه تماما. يقال إن الشبّان هم الأكثر تصديقا لتلك النظريات. لستُ أكيدة من ذلك. فالحاجة إلى إعادة تركيب العالم/ الحدث بشكل يساعد على فهمه واستيعابه ليست خاصية الشبّان وحدهم. إنها غواية القصّة المؤلَّفة التي لا تخلو من غرابة. وهي ربما إعادة اعتبار للذات، بوصفها قادرة على التحليل وتكوين رأي خاص بها، حتى وإن لم يكن حقيقيا أو مقنعا. العالم يصغر مع وسائل التواصل وإنترنت وسواها، والإشاعات والأكاذيب تتكاثر، ولا قدرة للعقل المحاصر بشتى أنواع الأخبار على تمييز الحقيقيّ من الزائف. القراءة والتقصّي لمعرفة الحقائق انسحبا لصالح الخبر السريع والمقالة المختصرة والأخبار التي لا نحتاج التحقّق من صحّة مصادرها. والنتيجة؟ فوضى المعلومات وتحوّل العالم افتراضيا مع ما يجري من أحداثٍ على الشاشات، وتكاثر صوره الزجاجية المتزاحمة في الطرْق على العقول. ربما كان أتباع نظرية المؤامرة تعساء لا أكثر، أناسا مغلوب على أمرهم، ضائعين أمام حداثةٍ متسارعةٍ خلفتهم، وأغلقت أبوابَها في وجههم. أو ربما أنهم يشعرون أنهم في مركز دُوارها وقد عرّتهم من مقدرتهم على الاستقلال برأي أو بموقف.
أما في عالمنا العربي، فتتّخذ فكرةُ المؤامرة بُعدا إضافيا يصنع منّا "ضحايا" الآخر أيا يكن، ذاك الذي يستولي على خيراتنا، ويهدّد ديننا وتقاليدنا وثقافتنا، والمسؤول عن تراجعنا وتخلّفنا وتقهقرنا، والمتسبّب في حروبنا وتشرذمنا وجمودنا. وإنْ كان ذلك يتضمّن في الواقع وجه حقّ، فإنّ إرجاع سوء أحوالنا حصرا إلى تسلّط مؤامرة عالمية علينا يُعفينا من أي ذنب، من أية مسؤولية، ليهبنا صكَّ براءة أزليًا يُعفينا أبدا من التحرّك والنهوض لإحداث أدنى تغيير. ..