استدعاء الديكتاتور
كان صدّام حسين، خلال الحرب العراقية الإيرانية، يفاخر، من على شاشات التلفزيون، بأنه لو أجري استفتاء عام للشعبين، العراقي والإيراني، للمفاضلة ما بينه والخميني، فإن شعبيته ستكون أكبر من شعبية الخميني!
بغضّ النظر عن البعد الدعائي والثقة المفرطة في هذا الكلام، هناك من الأدلة ما يكفي للقول إن القطاعات الأكبر من الشعب العراقي خلال عقد الثمانينيات ما كانت تفكّر بالوقوف ضدّ صدّام، إما لأنها تخاف من سطوة نظامه الأمني، أو لأنها ترى وجوده أمراً طبيعياً، قد يكون مكروهاً، لكنه طبيعي، فلا بدّ من "زعامة قويّة" حتى وإن كانت ظالمة. وبين هؤلاء جزء كبير يؤيد صدّام، ويقتنع بمضامين الدعاية في الخطاب الإعلامي الرسمي، خصوصاً أنّ الوضع الاقتصادي بشكل عام كان جيّداً، والسياسات الاشتراكية المحمولة على فوائض النفط توصل الخدمات إلى أقصى القرى، وتجعل السلع الاستهلاكية الأساسية رخيصة جداً لمختلف الطبقات الاجتماعية.
وفي الخلفية العامة لأي نقاش في مشروعية الاستبداد الصدّامي، كان هناك الظلّ الواسع لشيء اسمه "الحرب العراقية الإيرانية"... عندما كنت طفلاً صغيراً في تلك الأيام، كنت أسمع نقاشات كبار العائلة، عن الخشية من نظام الأصولية الدينية في إيران، في ما لو انتصرت إيران في الحرب، وغزت العراق.
كانوا يفضّلون استبداد صدّام على استبدادٍ يرونه أكثر بشاعة وظلامية يأتي من الحدود الشرقية. وقد يشتمون صدّام وحزب البعث حين يرون قوافل الشهداء محمولةً على السيارات، وهي تجوب الأزقة في المدن والأحياء، لكنّهم يعاودون الشتم مرّة أخرى لقادة إيران، لرفضهم وقف إطلاق النار، ابتداءً من العام 1982 وحتى لحظة انتهاء الحرب في أغسطس/ آب 1988، فصدّام يتحمّل جريرة إشعال الحرب والإصرار على خوضها من 1980 إلى 1982، لكنّ استمرار الحرب ست سنوات تالية يقع على عاتق النظام الإيراني وطموحه التوسّعي.
في يناير/ كانون الثاني 2005، وفي أثناء استعداد العراقيين لانتخاب الجمعية الوطنية الانتقالية التي ستكتب الدستور الدائم لاحقاً، كان هناك نقاش يجري بشكل معتاد بين الناس في الشوارع والمقاهي وسيارات الباص، حول فرضيات مثل؛ ماذا لو خرج صدّام من مخبئه الآن وشارك في الانتخابات؟!
كانت هناك قناعة بأنّ صدّام سيفوز، على الرغم من كلّ الكوارث التي سبّبها للبلد، وآخرها الاحتلال الأجنبي، والسبب شعور كثيرين بأن البلد يذهب إلى المجهول، بسبب انتشار الجماعات المسلّحة وتفجيرات "القاعدة"، وفوضى الإدارة وضعف الأمن واستشراء الطائفية والكراهيات التي تقفز من أجهزة التلفزيون إلى العوائل في صالات البيوت.
لا يمكن تفسير هذا "الاستدعاء للديكتاتور" بمنظور أيديولوجي، أو لأنّ هؤلاء يحبّون صدّام لذاته، وإنما ما يمثله الشكل المألوف لديهم لصيغة "النظام المستقرّ"، فمثل هذا النظام يعني عندهم حكماً بقبضة حديدية من رجل واحد.
انبثقت صورة الديكتاتور الذي يخلّص الناس من الفوضى من جديد مع عمليات "صورة الفرسان" في مارس/ آذار 2008، حين قضى رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، على سيطرة المليشيات على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البصرة، وأزاحت القوات الأمنية عملياً أكثر من 50 مليشيا كانت تعبث هناك بحياة المواطنين.
بسرعة، تحوّل المالكي إلى صورة الرجل القوي المتمنّى لدى قطاعات كثيرة، وحتى بعد إخفاقاته الهائلة في ما بعد، ودعمه أشرس المليشيات التي عرفها العراق، وتسبّبه بسقوط الموصل بيد عصابات "داعش" في منتصف عام 2014. إلّا أنّه حصل منفرداً على أعلى الأصوات لكلّ السياسيين الذين شاركوا في الانتخابات البرلمانية وقتها. وظلّ رقماً سياسياً مهماً مع كلّ الدورات الانتخابية اللاحقة.
ما جعله صامداً، بالدرجة الأساس، الشبكة الزبائنية التي رعاها وأنفق عليها داخل أجهزة الدولة، لكن أيضاً؛ صورته قائداً قويّاً يبطش بالذين يعكّرون صفو الحياة العامة، والتي صعدت إلى ذروتها في وقت وجيز من عام 2008. حتى مع انتفاضة 2019، كان ناس كثيرون، غاضبون من فشل النظام السياسي، يرفعون صور قائد جهاز مكافحة الإرهاب الفريق أول ركن عبد الوهاب الساعدي. وينادون عليه، تصريحاً أو تلميحاً، بأن ينقلب على النظام السياسي، ويقود البلد بقبضة من حديد.
حتى يومنا هذا، يمكننا رؤية أنّ ذروة الإحباط من تعطّل النظام السياسي وفشله المريع تتناسب عكسياً مع استدعاء الديكتاتور، ولن ينفع أن تشرح للناس الجانب المظلم من هذا الاستدعاء، لأنّ 19 سنة من فشل النظام السياسي "المضاد للديكتاتورية كما يفترض" ماثلٌ للعيان بأجلى صورة.