استعلاء أيديولوجي أم عماء؟

03 يناير 2025
+ الخط -

يبدو الشعب السوري في بعض الإعلام العربي، الذي يتحدّث ليلاً نهاراً عمّا وصلت إليه الحال في سورية، ويحذّر الشعوب الأخرى من المصير نفسه... يبدو كما لو ألّا وجود له إلا في بعض إشارات تتحدّث عن هذا الشعب الغافل، الذي يذهب بقدميه إلى مصيره الأسود، مع بعض عبارات الشفقة والدعاء لمساعدة هذا الشعب "الغلبان" وإنقاذه. يبدو الشعب السوري في عرف هؤلاء طيّباً حتى السذاجة والبلاهة، ما يجعله يصدّق أن "الإرهابيين" سوف يحملون له النجاة. يبدو السوريون أيضاً يعيشون حالياً أسوأ أوقاتهم، إذ تحدث المجازر خفية (كيف يعرف الإعلام بها إذاً؟!)، مجازر تطاول الأقلّيات التي بدأت بالنزوح جماعات. يتحدّث هؤلاء، ومثلهم كثر من أيتام محور الممانعة، وبقايا القومية، في وسائل التواصل الاجتماعي، بثقة العارف وشاهد العيان، وحين تسأل أحدهم من أين لك هذه المعلومات؟ يخبرك عن مصادر له في سورية. وحين تقول له إن لك عائلة وأهلاً وأصدقاءً يعيشون هناك، ولم يقترب منهم أحد، ولم يهاجروا، ولم يتركوا منازلهم، ولم يوجِّه إليهم أحد كلمة واحدة جارحة، يطلقون عليك سريعاً تهمة العمالة للأميركي، الذي يريدك أن تروّج هذه المعلومة كي تساعد في التغطية على المجازر (وجّه لي هذه التهمة أشخاص من دول عدّة، كما لو أنهم متّفقون معاً على ترديدها).
يتأفّف آخرون من فرح السوريين في وسائل التواصل، ويستنكرون عليهم احتفالاتهم بذريعة أن غزّة تذبح، رغم تداول مقاطع عديدة مصوّرة من قلب غزّة تبارك للسوريين حرّيتهم وخلاصهم من المجرم الساقط، يردّ عليها سوريون بأن غزّة تبقى في القلب، وأن الحرّية القادمة هي حرّية غزّة، والحلّ العادل للقضية الفلسطينية. لكن هذا لا يشفع لدى المتأفّفين الذين سرعان ما يتداركون كلامهم للحديث عن "الإرهاب الأسود" في سورية، الذي سمح لإسرائيل أن تستهدف المنظومة الدفاعية السورية ومنصّات الصواريخ والمواقع العسكرية، بدلاً من أن يتّجه المقاتلون الذين أسقطوا الأسد مع الشعب السوري لقتال العدو الصهيوني. وحين تقول لهم لماذا لا تذهب جيوشكم ومعها شبابكم إلى قتال العدو الصهيوني؟ يخبرونك بأن حكوماتهم لا تسمح لهم، بينما كان نظام الأسد "الذي سعيتم إلى إسقاطه هو الشريان الوحيد الباقي للمقاومة".
ثمّة حالة من الاستعلاء الأيديولوجي المقيت، تكاد تفيض هذه الفترة من بعض القنوات العربية وفي وسائل التواصل، ترى في سورية مُجرَّد معبر لمّا يسمى حلف المقاومة، رغم الأهوال كلّها، التي انكشفت أمام العالم كلّه بعد سقوط الأسد. لكن هذا لا يهم، كان على الأسد أن يبقى، حتى لو أفنى الشعب السوري كلّه، المهم ألّا يهتزّ محور المقاومة، والذي لم يحرّر منذ تشكّله في أول القرن الحالي شبراً واحداً من الأراضي العربية المحتلّة، لا في فلسطين ولا في غيرها، وكان سيفاً مسلّطاً على رقاب السوريين بعد 2011، مرتكباً فيهم مجازرَ لا تُحصى ولا تُوصف تحت عناوين مذهبية يدفع ثمنها السوريون في كلّ لحظة.
هذا الاستعلاء لا يعنيه ما عاناه السوريون كلّه، ولا يكترث بحاضرهم ولا مستقبلهم، هم بالنسبة إليه أدواتٌ لإنجاح مشروع محور المقاومة، وحين فشل المشروع تحوّلوا أداة لتمرير مشاريع أخرى مضادّة. أمّا ما يريده السوريون، وما يخطّطون له، وما يمكنهم فعله، وما يسعون إليه، فغير موجود في حساب هؤلاء أصحاب الأيديولوجيات الاستعلائية. والأخطر أنهم يتعاملون مع أكثرية الشعب السوري (السنّة، لنسمّها بمسمّاها الواضح) كما لو كانت كتلة واحدة، وكلّها مساندة لما يطلقون عليه الإرهاب، بينما "الأقلّيات" السورية تدعم "مشروع المقاومة"، وتنكفئ حالياً خوفاً من المجازر التي ترتكبها الأكثرية بحقّها أو تهرب من سورية.
ننقسم نحن، السوريين بالنسبة إلى هؤلاء، إلى قسمَين: إرهابيون ومذعورون مغلوبون على أمرهم، وليس بيننا اختلافات تخرج عن هذه الثنائية، ولا نملك أي قرار أو قدرة على الفعل أو المقاومة، ولسنا واعين بالقدر الكافي لندرك ما يحاك لنا. باختصار، موت السوريين أو حياتهم لا يعني شيئاً لهؤلاء، لا لحرصهم على فلسطين، بدليل أن لا أحد منهم مستعدّ للتظاهر في بلده دعماً لغزّة، بل لأنهم مرعوبون من أنهم باتوا بمثابة الفضيحة التي لم تستحِ يوماً من دعمها المجرمين.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.