استكتاب صيني
في الأشهر الأولى من عام 2020، في وقت مبكّر من عمر جائحة كوفيد 19، راسلني ناشري الصيني، طالباً مني الموافقة على المشاركة في استكتابٍ تقوم به مؤسسة بحثية صينية كبيرة، لكتّاب ومؤلفين حول العالم، للجواب على أسئلة مثل: كيف يواجه الكتّاب والمثقفون هذه الجائحة؟ وما هي طرق التكيّف معها؟ وكيف يمكن أن نتّخذ موقفاً إيجابياً منها يمكن أن يساعد الجمهور العام معنوياً ونفسياً؟
لم أردّ على هذه الرسالة إلى الآن! وقد تكون هذه عدم لياقة، أو تقليلاً للاحترام، ولكن هذا أبعد ما يكون عن تفكيري في وقتها، لأنني كنت بصدد تحضير ردّ مناسب، وصادف أن هذا التحضير استغرق وقتاً أطول مما يجب، ثم، مع تسارع الأحداث، اضمحلّت الدوافع عندي للرد أو المساهمة في الجواب على الأسئلة الحيوية التي طرحها هذا الاستكتاب.
أطاحت بي الجائحة، مثلما فعلت مع غيري. لم أجد في نفسي أي مزيةٍ تؤهلني لإعطاء دروس لغيري من مواطني الكوكب، بل أنا معهم، نتفاعل سويّةً في نقاش مفتوح يختلط فيه الخوف والابتكار مع الخرافات الحضرية والإشارات الدينية والتحليل العلمي الذي يتداخل فيه العلم الحقيقي مع المزيّف.
ربما أملك سمةً تجعلني في دائرة نخبةٍ ما، أنني قادر على التحكّم في اللغة، واستعمالها للتعبير الدقيق نسبياً. ولكن أن أقدّم دروساً من خلال هذه اللغة للآخرين كي يصمدوا أو يتكيّفوا مع الكارثة، أي كارثةٍ كانت، هو أمرٌ ضبابيٌّ وغير واضح عندي. وهنا أستذكر كلمة أثيرة عندي للروائي اللبناني، إلياس خوري، قالها تعليقاً على تأخره في الكتابة الروائية عن الحرب الأهلية اللبنانية ضمن حوار في مجلة عربية أواخر الثمانينيات: لا يمكن لنا أن نكتب عن الموت ونحن نموته.
ما زلنا في واقع الحال في خضم كوفيد 19، ولم نخرج منه لنحوّل التجربة إلى لغة، إلى نصوص تستكشف معنى هذه التجربة الاستثنائية، والتي جمعت البشر بشكل نادر، في مصيرٍ واحد وأمام تهديد كوكبي واحد، يذكّر بأفلام الخيال العلمي عن غزو الكائنات الفضائية، وتذكّر بشكل لافت، أبناء جيلي، بالرسوم المتحرّكة الشهيرة التي كنّا نشاهدها في الثمانينيات، ومنها "مغامرات الفضاء" وحديث الدوق فليد وفريقه من البشر عن مهمتهم باعتبارها مهمة كونية، وأنهم يتحدّثون باسم كوكب الأرض ونيابة عن سكّانه، للدفاع عنهم ضد غزو همجيٍّ آتٍ من الفضاء.
الاستجابة تجاه الجائحة في عالم الثقافة والأدب والسينما والدراما العالمية تحديداً، تكشف عن تأخر عملية الاستيعاب والهضم
الغزو الكوكبي الذي تعرّضنا له وما زلنا نعيش فيه هو من داخل الكوكب نفسه، ولم يأت من السماء، وربما فكّر بعضهم منها، على وفق خيال ميتافيزيقي فائض، بأنه رسالة تحذيرٍ من الكوكب نفسه والنظام الطبيعي الذي يحكمه، موجّهة إلينا نحن فصيلة اللبائن المميزة التي تحمل على عاتقها وحدها مسؤولية تخريب الكوكب وشروط العيش الآمن فيه.
من الأشياء الملفتة أن الاستجابة تجاه الجائحة في عالم الثقافة والأدب والسينما والدراما العالمية تحديداً، تكشف عن تأخر عملية الاستيعاب والهضم. أو عدم القدرة على تمثّل الصورة الكليّة للجائحة فنياً وجمالياً. في الغالبية من الأعمال السينمائية والدرامية التي ظهرت خلال العامين الماضيين، هناك نمطان من الاستجابة تجاه الجائحة: الأول، الاشتغال في منطقة أعمال الكوارث السابقة، ومنها الأعمال السينمائية والدرامية عن الفيروسات القاتلة التي تنتشر في عموم الكوكب، أي أن الجائحة الجديدة ذكّرت باستجاباتٍ فنيّة عن جوائح افتراضية، نفّذت فنيّاً خلال السنوات العشر الماضية. هذا يعني أن صنّاع هذه المنتجات الفنية اعتمدوا على الخيال الجمالي السابق في مواجهة تجربة جديدة، وليس تفكيك التجربة الجديدة. لقد مارسوا إسقاطاً فنياً لصور قديمة على واقع جديد. أدرك النمط الثاني بوعي أن عملية تفكيك التجربة الجديدة ليس بالشيء السهل، لذلك فضّل "العبور" عليها. في الجزء الثالث من مسلسل "You"، للمخرج ديفيد لانزنبرج، يرد بشكل سريع، وبأقل من عشر ثوانٍ، في واحدةٍ من الحلقات ذكر لجائحة كورونا والتعقيم بالمطهّرات. وفضّل المسلسل اعتبار الجائحة مجرّد عارضٍ مؤقت، لا يستحق الوقوف عنده، على الرغم من أننا ما زلنا فيه.
كيف يمكن أن نتسامى فوق تجربة كوفيد، لنكتب عنها بحياد، واستناداً إلى صوابٍ أخلاقي متعالٍ؟
يساعد على ذلك أن أعمالا كثيرة تظهر على الشاشات أو المنصّات اليوم هي سابقة على الجائحة، وتوقّف الإنتاج فيها مؤقتاً بسبب الإغلاق العام، لذلك هي ليست أعمالاً معنية بالجائحة أصلاً، وفوجئت بهذا العارض الصحّي الكوكبي. هناك أيضاً شيء سايكولوجي/ دعائي ترويجي بلمسة "الصواب الأخلاقي"، يمكن تلخيصه بعبارة: أن هذه الجائحة، قياساً بعمر البشر على كوكب الأرض، مجرّد ومضة زمنية، ويجب أن نتجاوزها نفسياً، ونعيد التذكير بسياق الحياة الطبيعية، وندفع إلى الإيمان بأن الحياة الطبيعية ستعود، وتنتهي الجائحة وآثارها قريباً. ومن الضروري تخفيف الرعب المرتبط بها، ودعم الوضع النفسي للمصابين، والذين فقدوا أحبّاءهم بسبب الجائحة.
من الإشارات القليلة التي يمكن تأكيدها باطمئنان عن النتائج الاجتماعية والثقافية لهذه الجائحة، أنها ربما أول تجربةٍ كوكبيةٍ تفرض نمط سلوك موحّد في الآن نفسه على الجميع، وتستنهض المخاوف الطبيعية والخيالات الميتافيزيقة المتشابهة. كل التجارب الكوكبية السابقة كانت تحقق شرط عالميتها إما بالتدريج، مثل أنماط السلوك الغذائي وموضات الملابس، أو افتراضياً؛ بالتضامن الإنساني مع من يعيشها، مثل متابعة الحروب والكوارث الطبيعية التي تحدُث للآخرين في بلدانٍ أخرى بعيدة عنّا. حتى التقنيات المعاصرة التي وحّدت الكوكب في فضاء عولمي اتصالي واحد تكشف عن استخدامات مختلفة، تبعاً للاختلاف الثقافي بين بيئة اجتماعية وأخرى.
مع كلّ هذه الملاحظات، لا أجد نفسي مؤهلاً، حتى الآن، للردّ على الاستكتاب الصيني. كيف يمكن أن نتسامى فوق هذه التجربة، لنكتب عنها بحياد، واستناداً إلى صوابٍ أخلاقي متعالٍ؟ ما زلنا في خضمّ أمواجها.