اصطفاف المواجهة ومحظورات يجب تجنّبها
في وقت تتعرّض فيه الحقوق الفلسطينية لأخطر (وأشرس) هجمات الحركة الصهيونية والحكومة الفاشية الإسرائيلية الرامية إلى ضم كامل الضفة الغربية وتهويدها، ومحاولة تنفيذ تطهير عرقي جديد، تستمرّ حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية، ويُنذر استمرارها بمحاذير خطيرة يجب تجنّبها. أولها تحوّل الانقسام المزمن وخلاف الرؤى بشأن نهج المقاومة إلى صدام فلسطيني فلسطيني، واحتراب داخلي. وكانت حادثة طولكرم الخطيرة والمؤسفة، والتي أدّت إلى استشهاد الشاب عبد القادر زقدح ناقوس خطر يجب أن ينبّه الجميع إلى مخاطر انفجار صراعات داخلية لن تخدم سوى الاحتلال وأهدافه، وتؤدّي إلى ضياع كل ما تحقق من عزلةٍ متصاعدةٍ لحكومته الفاشية. لذلك يجب إجراء تحقيق مستقل تماماً في الحادثة، ومحاسبة المسؤولين عن مقتل الشاب أمام قضاء عادل، واحتواء الحادثة لحماية السلم الأهلي، وضمان عدم تكرارها في أي منطقة أخرى، صوْناً لوحدة الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.
المحظور الثاني، المسّ من قريب أو بعيد بحقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الشاملة بكل الأشكال التي يقرّها صراحة القانون الدولي، وتجّنب أي صدام مع المنخرطين فيها، خصوصاً أنه لا يمر يوم من دون أن يغتال الاحتلال مزيداً من الفلسطينيين، ومن دون أن يتعرّض الفلسطينيون لاعتداءات الإرهابيين المستوطنين. وإذا كانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية غير قادرة على توفير الحماية للشعب الفلسطيني، فمن واجبها تجنّب أي صدام مع أبنائه ومناضليه، بما في ذلك وقف كل أشكال الاعتقالات السياسية.
المحظور الثالث، التعاطي بأي شكل مع بعض الضغوط الدولية للتعايش مع مشاريع التطبيع مع الحكومة الفاشية الإسرائيلية، وهو تطبيعٌ يصطدم بمشاعر الشعوب العربية ومواقفها، بما فيها التي تورّط حكّامها بالتطبيع، ويمثل طعنة في ظهر نضال الشعب الفلسطيني، وهدفه المركزي منذ بدأ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ترويجه مع رئيس الحكومة الفاشية بنيامين تنياهو لعزل القضية الفلسطينية وتصفيتها. وإن موقفاً فلسطينياً شعبياً ورسمياً حازماً ضد التطبيع سيسهم في إفشال ما يخطّط له نتنياهو، خصوصاً أن التطبيع ليس أمراً مسلماً به من دول عربية مركزية، لديها دوافع مصلحية وجيوسياسية جوهرية لتبنّي سياسة متوازنة بين القوى الكبرى المتصارعة، وبعضها يدرك الخطر الداهم على بلدانها من الانضواء في الحلف الاستخباراتي والعسكري الذي تروّجه إسرائيل ضد إيران.
هناك أطراف دولية تمارس سياسات منافقة لمصلحة إسرائيل، وتحاول إغراء الجانب الفلسطيني بمكاسب تافهة
هناك أطراف دولية تمارس سياسات منافقة لمصلحة إسرائيل، وتحاول إغراء الجانب الفلسطيني بمكاسب تافهة، للحصول على غطاء فلسطيني للتطبيع الذي يتردّد المقصودون به عن الإقدام عليه لمعرفتهم بحساسية القضية الفلسطينية، والمكانة الدينية الإسلامية للقدس والمسجد الأقصى لدى شعوبهم. ولا قيمة هنا لأي مكاسب مادية، أو تكتيكية، إن كان التطبيع سيؤدّي استراتيجياً لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وسيعرّض المتصالحين معه لغضب شعبي غير مسبوق.
المحظور الرابع مواصلة المراوحة في أوهام الماضي بإمكانية الوصول إلى حلٍّ وسط، ومفاوضات، مع الحركة الصهيونية والفاشية الإسرائيلية، والتردّد عن التوجّه إلى وحدة وطنية راسخة على استراتيجية وطنية كفاحية مقاومة للاحتلال، والاستيطان ونظام الأبرتهايد العنصري. وما من شك في أن تلك المراوحة عقبة رئيسية أمام جهود المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني.
من واجب الأجهزة الأمنية الفلسطينية تجنّب أي صدام مع أبنائه ومناضليه
ولا بد من التذكير بأن كل ما وصفناه يجرى في إطار تحوّلين جديين للغاية في المنطقة. الأول، تعمّق الانقسام الداخلي الإسرائيلي، وهشاشة وضع الحكومة الفاشية التي تلهث باحثةً عن أي فرصة للتطبيع، على أمل تحسين وضعها الداخلي، وكانت المسرحية الهزلية للقاء وزير الخارجية الإسرائيلي كوهين مع وزيرة خارجية ليبيا نجلاء المنقوش مثالاً على ذلك، وهي مسرحية انتهت بهروب الوزيرة من بلدها خوفاً من ردّة فعل الشعب الليبي وتنصّل حكومتها من ذلك اللقاء. وما جرى في ليبيا سيتكرّر في بلدان أخرى إن أصرّ حكّامها على تجاهل مشاعر شعوبهم المناصرة للشعب الفلسطيني. وبكلمات أخرى، الاقتراب من التعايش مع التطبيع أمرٌ محرّم، لأنه لن يخدم إلا مصلحة الحكومة الفاشية الإسرائيلية التي تنفذ أخطر الهجمات وأشرسها على الشعب الفلسطيني، وتكافح للبقاء في وجه تيارات معارضة جارفة داخلياً وخارجياً، ولا مصلحة لأي فلسطينيٍّ في إلقاء طوق النجاة لها لتستكمل جريمة نكبة جديدة ضد الفلسطينيين.
التحول الثاني تصاعد مخاطر انفجار حرب شاملة على عدّة جبهات، إن أقدمت إسرائيل على تنفيذ تهديداتها باغتيال قادة فلسطينيين، أو إن استفزّت مواجهة عسكرية مع حزب الله في لبنان، وهذه مخاطر واقعية يؤكّدها تخطيط الحكومة الإسرائيلية لجلسة أمنية خاصة باحتمال انفجار حربٍ على ثلاث جبهات، إحداها الضفة الغربية نفسها. ويجري هذا التحوّل في ظل تدهور ملموس في قدرات جيش الاحتياط الإسرائيلي، والذي يمثل ثلثي المقاتلين في جيش الاحتلال. ولا يمكن لأي مناورات سياسية، أو نفاق دبلوماسي، أو ألاعيب مصلحية أن تغيّر الخريطة الموضوعية لاصطفاف القوى في الصراع الجاري، فالشعب الفلسطيني كان، ولا يزال، وسيبقى في صفّ مقاومة المخططات الإسرائيلية، مقابل التطبيع معها، بل القضية الفلسطينية نفسها هي جوهر الاصطفاف المقاوم وأساسه.