اعتراف إسرائيلي بطعم الابتزاز
دخل مسار علاقات التطبيع بين المغرب الرسمي والكيان الصهيوني مرحلة جديدة تُنبئ بالخطورة التي تسير نحوها هذه العلاقات التي تتطوّر باطراد. وقد دلّت على التطور الجديد في هذه العلاقات رسالة من رئيس وزراء الكيان الصهيوني، نتنياهو، إلى الملك محمد السادس، يعترف فيها بسيادة المغرب على إقليم الصحراء المتنازع عليه مع جبهة بوليساريو المدعومة من الجزائر. ووصف الملك القرار الإسرائيلي في رسالة جوابية بـ "الهام والصائب والمتبصّر"، وأنه "لقي ترحيبا واسعا من لدن الشعب المغربي وقواه الحية"، ولردّ الصاع صاعين، دعا الملك المغربي نتنياهو لزيارة المغرب.
وخلّف القرار الإسرائيلي داخل الساحة السياسية المغربية ردود فعلٍ متضاربة ما بين مؤيد له ومعارض ومضطرب وحذر وغامض. وبما أن الملك استبق الأحزاب بالقول إن القرار لقي تأييد قوى الشعب المغربي الحيّة، فقد بات الموقف من القرار بمثابة المحدّد للاصطفاف داخل تصنيف القصر الملكي "القوى الحية" داخل البلاد أو خارجها. لذلك كان طبيعيا أن يأتي تأييد القرار الصهيوني ومباركته بطريقة تلقائية، من أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان، وفي مقدّمها أحزاب الأغلبية الحكومية والأحزاب المحسوبة على المعارضة الرسمية، وكلها ليس لها امتدادات شعبية تستمد قوّة وجودها على الساحة السياسية المغربية من قربها من السلطة وولائها لها ومباركتها قراراتها. وفي المقابل، قوبل القرار بتنديد الهيئات السياسية والمدنية المعارضة للسلطة، والمناهضة للتطبيع التي شكّكت في نوايا الكيان الصهيوني، وحذّرت من مغبة الانجرار وراء التطبيع معه، وفي مقدّمة المعارضين جماعة العدل والإحسان، أكبر جماعة إسلامية مغربية لا تشارك في الحياة السياسية الرسمية، والأحزاب اليسارية المعارضة، خصوصا "النهج الديمقراطي" الذي يقاطع جميع الانتخابات، و"الطليعة"، و"فيدرالية اليسار" و"الاشتراكي الموحد"، الحزبين اليساريين الممثلين داخل البرلمان، بالإضافة إلى هيئات مدنية وحقوقية مناهضة للتطبيع. أما موقف الاضطراب والحذر والغموض فقد تبدّى لدى حزب العدالة والتنمية الذي قاد الحكومة ولايتين متتاليتين من 2011 حتى 2021، وتم التوقيع على اتفاقيات التطبيع في عهد حكومته الثانية عام 2020، فقد التزم الصمت، هو وذراعه الإيديولوجية حركة "الإصلاح والتوحيد" خوفا من غضب السلطة ضده، وربما انتقامها منه، وحرصا على عدم إثارة انتقاد قواعده المناهضة في أغلبيتها التطبيع.
وبعيدا عن مواقف الأحزاب والهيئات التي غالبا ما تتحكّم فيها مواقفها ومصالحها السياسية، يُعتبر القرار، في حد ذاته، اختراقا كبيرا من الجانب الإسرائيلي، في مسار تطبيع العلاقات بين المغرب الرسمي والكيان الصهيوني، ويحمل بين طيّاته مخاطر كبيرة ستدخل هذه العلاقات منعرجات خطيرة، يصعب معها العودة إلى الوراء، فالكيان الصهيوني لا يمنح أي شيء بدون مقابل، وعلاقاته مع الدول يبنيها على مصالحه، وأكثر من ذلك على مخطّطاته الإستراتيجية البعيدة المدى. وحتى القرار الذي هلّل له المباركون جاء بطعم الابتزاز، وهو ما جاء في الرسالة التي حملت اشتراطات إسرائيل مقابل اعترافها بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، وتمثلت في عقد النسخة المغربية من اجتماع النقب الذي تضغط تل أبيب من أجل عقده على الأرض المغربية، وفي رفع مستوى العلاقات بينها وبين المغرب إلى مستوى السفارات، رغم أن إسرائيل تعتبر تمثيليّتها في الرباط بمثابة سفارة، لذلك سارعت إلى تعيين ملحق عسكري من جيش الاحتلال في المغرب ستوكل له مهام أمنية واستخباراتية لا أحد يعرف أبعادها، وهو تعيين تزامن مع قرار الاعتراف، وبدون استشارة الجانب المغربي الرسمي الذي التزم الصمت، بعد أن وضعه "حليفة" الإسرائيلي أمام أمر واقع!
فتح قنصلية للكيان الصهيوني في إقليم الصحراء، يمنح هذا الكيان موطئ قدم على أبواب الصحراء الكبرى، يسهّل عليه مهمّة اختراق أفريقيا الغربية
أما جانب الخطورة في القرار الإسرائيلي فهو فتح قنصلية للكيان الصهيوني في إقليم الصحراء، ما سيمنح هذا الكيان موطئ قدم على أبواب الصحراء الكبرى، يسهّل عليه مهمّة اختراق أفريقيا الغربية، وربما يفتح شهية طمع الصهاينة الساعين دائما إلى نقل مشاريعهم السرطانية إلى هذه المنطقة على شكل مشاريع فلاحية وتجارية واقتصادية. وقد بدأت فعلا بعض بوادر هذا الوجود الصهيوني على الأرض المغربية من خلال مشاريع استثمارية فلّاحية لزراعة المنتوجات التي يحتاجها الكيان الصهيوني، ويتطلب إنتاجُها مياها كثيرة يتم جلبها حاليا من الفرشات المائية المغربية التي شكلت على مر العصور خزّانا مائيا لسكان القرى والبوادي المغربية.
وبعيدا عن الأبعاد الجيوستراتيجية لهذا القرار، وما يحمله من مخاطر تخدم مصلحة الكيان الصهيوني، أولا وأخيرا، فإنه يبقى قرارا غير ذي موضوع، من الناحيتين السياسية والقانونية، عدا كونه مدانا أخلاقيا. وسياسيا، هو مجرّد قرار صادر من جانب واحد عن كيان محتل يفتقر هو نفسه إلى كل شرعية سياسية. وقانونيا، لن يغير من الأمر الواقع شيئا، بما أن نزاع الصحراء ما زال معروضا أمام الأمم المتحدة التي تدعو في كل قراراتها إلى حل سياسي متوافق عليه بين أطراف النزاع. ومن الجانب الأخلاقي، هو اعتراف بطعم المرارة، حتى لا نصفه بما هو أقسى، لأن فيه ما فيه من الطعن للمبادئ والقيم والأخلاق التي يدّعى المغرب الرسمي الدفاع عنها تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الشعب الفلسطيني، فإسرائيل التي تعترف اليوم بسيادة المغرب على إقليم الصحراء تصنّف دولة احتلال، ودولة عنصرية، ودولة أبارتهايد قامت على الدم والاغتصاب، وعلى القتل والتدمير، وعلى التشريد والتهجير. وكما يقال فاقد الشيء لا يعطيه، في الحالة هذه، الكيان الإسرائيلي هو الذي أخذ من دون أن يعطي أي شيء، لأن ما أعطاه للمغرب مجرّد الوهم، وهذا ما ستكشف عنه الأيام والسنوات المقبلة.