اعتقال دوروف قرار سياسي
أحاطت السلطات الفرنسية اعتقالها مؤسّس مجلس إدارة تطبيق تليغرام ورئيسه، بافيل دوروف، في 24 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، بقدرٍ كبير من السرّية، ولم تستجب لطلبات التعليق على ما جرى، لكن شبكة التلفزيون الفرنسية TF1 أفادت بأن القضايا الرئيسية هي عمليات الإشراف على "تليغرام" وعدم الرغبة في التعاون مع إنفاذ القانون، كما ألمح إدوارد سنودن، المُبلغ عن مخالفات وكالة الأمن القومي الأميركية وناشط الخصوصية، إلى أن اعتقال دوروف كان قراراً سياسيّاً اتخذه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. ولا يقلّل من وجاهة هذا القول نفي ماكرون على منصة إكس هذا بأي حال، قائلاً إن اعتقال الرجل على الأراضي الفرنسية جزء من تحقيق قضائي، والأمر متروك للقضاء ليبتّ فيه.
كتبت المدعية العامة، لور بيكويو، "هناك شيء واحد نعرفه على وجه اليقين في ضوء قائمة التهم الموجهة إلى دوروف، أن اعتقاله لم يكن مرتبطاً بقانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي (DSA)، أو أي لوائح أخرى خاصة بالتكنولوجيا، حيث لا يمكن أن يؤدّي تطبيق قواعد الحوكمة عبر الإنترنت في الاتحاد الأوروبي إلى اعتقال مالك المنصّة".
على خلاف الحال في غالبية البلدان، حيث تسود وسائل التواصل والمنصّات الغربية، فإن "تليغرام" هو التطبيق الاجتماعي الأكثر شعبية في روسيا وأوكرانيا، ما أضفى بعداً سياسياً إضافياً على الأمر، فضلاً عن أن دوروف نفسه روسي الأصل والجنسية، رغم حصوله على جنسيات دول أخرى، بينها فرنسا بالذات، ما حمل محللين كُثراً على القول إن ما تعرّض له يندرج في محاولة السيطرة على منصّة تليغرام التي أصبحت تتمتع باستقلالية واضحة. كما ينمّ الأمر، وفق بعض هؤلاء، عن رغبة الدول الغربية في الوصول إلى البيانات الشخصية والقنوات الخاصة بالروس؛ مع ملاحظة أن مختلف الأشخاص يستخدمون "تليغرام"، بما فيهم الذين يشاركون مشاركة مباشرة في اتخاذ القرارات الحاسمة في مختلف المجالات، ومن بينهم، على سبيل المثال، عسكريون؛ فضلاً عن أنه، في بعض الصراعات العسكرية، يجري التواصل أيضاً باستخدام "تليغرام"، وهذا ما يجعل الغرب، الذي تمثله فرنسا في حال التعامل مع دوروف، يسعى إلى السيطرة على المنصّة، أو على الأقل التعرّف على ما هو موجود فيها من بيانات.
الرأي الراجح، بناء على كل ما أتى قولُه، أنَّ لِما يجري له علاقة مباشرة بما تُعرف "حرب المعلومات" التي تخوضها الدول النافذة، وأن الغاية هي الوصول إلى بيانات المستخدمين، والتي غدت معرفتها ضرورة لعدّة اعتبارات، بينها التحكّم في تشكيل ميول الرأي العام، وتوجيهه الوجهة التي تخدم مصالح إمبراطوربات المال والسلطة. وللأمر جوانب مختلفة: أمنية، واقتصادية، وسياسية وغيرها، تقتضي معرفة خوارزميات التشفير لدى المنصّات المختلفة للتحكّم في الأمر.
كانت عين فرنسا، وماكرون تحديداً، على مالك تليغرام بعد مغادرته وطنه روسيا. أراد ماكرون أن يوظّف القدرات التقنية العالية لديه في خدمة فرنسا، وتمّ منحه الجنسية الاستثنائية، للغاية ذاتها، ولكن فرنسا أخفقت في تحقيق غايتها في "استيعاب" دوروف في منظومتها المعلوماتية، حيث شقّ لنفسه مساراً مختلفاً، ما أثار حفيظة ماكرون الذي مكّن تطبيق تليغرام من أن يكون له صيت في فرنسا، بعد أن كان هذا الصيت روسياً في المقام الأول. وعلى طريقة "يرزقكم من حيث لا تعلمون"، استفادت روسيا من ذلك في جعل منصّة أطلقها روسي تحظى بانتشار عالمي أوسع.
يمكن أن تُوجَّهَ إلى دوروف تهمٌ عدة، تحمل طابعاً جنائياً، بينها الاشتراك في تبييض الأموال، أو تسهيل الوصول إلى المواد الإباحية وغيرها من التُّهم النظيرة، لكن ليس من شأن هذا كله أن يحجب جوهر المسألة، السياسي، باعتباره وجهاً من أوجه "حرب المعلومات" المستعرة، في عصرٍ بات فيه التحكم في هذه المعلومات أداة قوية من أدوات النفوذ، بما يعيق تشكيل إعلام مستقل، نزيه، غير مجيّر للأغراض الدعائية التي تخدم أجندة الحكومات، خصوصاً منها الممسكة بمفاصل السياسة العالمية، ومالكة القدرة على التحكّم في تشكيل الرأي العام وتوجيهه. وبلغ الأمر حدّ ملاحقة أفراد من داخل هذه المنظومة نفسها، كما حدث مع مالك "تليغرام".