اقتحامات الأقصى بين السياسي والديني/ الأسطوري
ثمّة قول شائع مفاده أنّ معظم قادة الحركة الصهيونية، ثم دولة إسرائيل لاحقاً، علمانيون، بل ملحدون، لكنّهم يؤمنون بأنّ "الرب" منح اليهود أرض الميعاد. وللهروب من هذه المعضلة ارتكزت الحركة الصهيونية إلى فكرة وجود "شعب يهودي" متميز عن باقي شعوب العالم ومكروه من الآخرين (الأغيار)، ولا حلّ لمشكلاته الدائمة إلّا بإقامة دولته اليهودية الخاصة به. وفي بداية المشروع الصهيوني، لم يكن مكان إقامة الدولة المقترحة محصوراً بفلسطين، بل كانت من ضمن خيارات متعددة شملت سيناء وليبيا وأوغندا والأرجنتين.
ينطبق الوصف السابق على جميع قادة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، من ثيودور هرتزل وزئيف جابوتنسكي، مروراً بديفيد بن غوريون وغولدا مائير، وصولاً إلى إيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو، الاستثناء الوحيد الذي قطع هذه السلسلة من الملحدين هو نفتالي بينت الذي ينتمي لتيار "الصهيونية الدينية"، فهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يعتمر قلنسوة المتدينين. ويقال إنّ زعيم حزب الليكود مناحم بيغن كان يحضر بعض الصلوات أحياناً، لكنّه على الأغلب كان يفعل ذلك تقرّباً من قاعدة حزبه التقليدية المحافظة، إذ ليس في سيرته الشخصية ما يوحي بشخصيةٍ متدينة. وقد سئلت غولدا مائير يوماً إن كانت حقاً تؤمن بوجود الله، فتملّصت من الإجابة بالقول إنّها "تؤمن بالشعب اليهودي، والشعب اليهودي يؤمن بالله".
اعتادت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة احتواء التيارات الدينية الأصولية، وإشراكها في مؤسسات الدولة، لكن وفق حصّةٍ محدودةٍ وغير حاسمة. وقد تحالفت هذه التيارات دائماً مع الحزب الحاكم، بصرف النظر عن هويته الأيديولوجية. وعادة ما كان يجري التوافق بين الكتل العلمانية والدينية بشأن المسائل الرئيسية، ويجري تدوير المشكلات الحساسة أو تأجيلها، مثل تعريف من هو اليهودي، وقضية تجنيد طلبة المدارس الدينية. أما في قضايا السياسة والاقتصاد والاحتلال والموقف من الشعب الفلسطيني، فقد كان المتدينون يسلّمون بما تقرّه الأغلبية العلمانية، ويكتفون لقاء ذلك بحصّتهم من الموازنات والحقائب الوزارية.
بتنا نشهد جنوحاً متزايداً من المجتمع الإسرائيلي وتياراته المختلفة نحو اليمين واليمين المتطرّف
وعلى هامش الأحزاب والحركات الاجتماعية الإسرائيلية، نشأت، مع الوقت، مجموعات قومية - أصولية متطرّفة، تحرّكها تعاليم التوراة ونبوءات التلمود، وتؤمن بالعنف ضد الفلسطينيين وتتبنّاه وتمارسه، ومن هذه المجموعات تلك التي تتمحور كلّ أعمالها حول نبوءة أنبياء إسرائيل القدماء حول عودة المسيح المخلص، وإعادة بناء هيكل سليمان مكان مسجد قبة الصخرة، ومن هذه المجموعات فرقة يقال لها "أمناء جبل الهيكل" وأخرى تسمى "عائدون إلى الهيكل". في الماضي، كان ينظر إلى هذه التشكيلات بوصفها مجموعات متطرّفة، غريبة الأطوار، وموتورة لا تمثل إلّا أقلية ضئيلة لا تؤثر على المشهد العام في إسرائيل، ولا سيما أنّها نادراً ما تجاوزت عتبة الحسم لانتخابات الكنيست.
في العقدين الأخيرين، بتنا نشهد جنوحاً متزايداً من المجتمع الإسرائيلي وتياراته المختلفة نحو اليمين واليمين المتطرّف، ما يعود إلى أسباب كثيرة، منها ارتفاع نسبة المستوطنين في القدس والضفة الغربية إلى مجمل اليهود في المجتمع الإسرائيلي، إذ تضاعف عددهم أكثر من ست مرات منذ توقيع اتفاق أوسلو، أي من نحو 120 ألف مستوطن إلى أكثر من 750 ألفاً. وزادت نسبتهم في المجتمع الإسرائيلي من حوالي 3% إلى أكثر من 12% حالياً، انعكس ذلك في النمو المطّرد والمتواصل لنفوذ تيار الصهيونية الدينية الممثل الآن في البرلمان بحزبين، لكلّ منهما ستة مقاعد، أحدهما في الحكومة، وهو حزب يمينا الذي يرأسه بينت، والثاني في المعارضة وأبرز قادته المتطرّفان إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. وهكذا انتقلت هذه الجماعات اليمينية المتطرّفة من هامش الخريطة السياسية إلى مركزها المقرّر، وباتت جميع التيارات الصهيونية تتعامل معها باعتبارها تيارات مشروعة تمثل جزءاً أصيلاً من المشهد الإسرائيلي العام.
حتى المرجعيات الدينية الأصولية ممثلة بالحاخامية الكبرى، والتي كانت في السابق تحرّم دخول اليهود للمسجد الأقصى، وتعتبره إثماً كبيراً لأنّه ينطوي على تدنيس أقدس الأماكن، ويتم على أيدي البشر وليس على يدي الرب والمسيح المخلص، باتت هذه المرجعيات، لكلّ من اليهود الغربيين والشرقيين، تتسامح مع اقتحامات الأقصى، وتغض النظر عن انتهاك تعليماتها.
الحكومات الإسرائيلية كانت تنفي في الماضي اعتزامها تنفيذ خطة التقاسم، إلّا أنّها هذه المرّة تحدثت عنها علناً وبصراحة
وقد بدأ المتطرّفون يعدون العُدّة لتصعيد نوعيّ هذا العام، وهو ذبح القرابين تمهيداً لإعادة بناء الهيكل، وهذا ليس طقساً تعبّدياً، بل هو خطوة إجرائية رمزية تسبق بناء الهيكل. خلال السنوات الماضية، أجرى هؤلاء تمارين تدريبية (بروفات) على هذا الطقس الديني/ الأسطوري، فذبحوا خرافاً وجديان في أماكن متفرّقة من الضفة الغربية والقدس، وأخذوا كلّ عام يقتربون شيئاً فشيئاً من المسجد الأقصى. وقد أظهرت الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية تساهلاً مطلقاً مع هذه الاقتحامات، ووفرت لها الحماية الأمنية والغطاء القانوني، ما يؤكّد تكامل خطط المستوطنين المتطرّفين للسيطرة على الأقصى، مع مشاريع الحكومة لتهويد القدس وفرض السيادة الإسرائيلية المطلقة عليها، بما في ذلك مشروع التقاسمين، الزماني والمكاني، للحرم القدسي ومرافقه.
ومع أنّ الحكومات الإسرائيلية كانت تنفي في الماضي اعتزامها تنفيذ خطة التقاسم، إلّا أنّها هذه المرّة تحدثت عنها علناً وبصراحة، وقالت إنّها ستسمح لليهود بدخول الأقصى في الأعياد اليهودية خلال الفترات الصباحية. أما التقاسم المكاني فيبدو أكثر صعوبة، إذ يعتزم المتطرّفون السيطرة على باب الرحمة المغلق منذ أيام صلاح الدين الأيوبي، لأنّ الرواية الدينية اليهودية تعتقد بمجيء المخلّص من جهة الشرق.
أكثر من 70% من الفلسطينيين من سكان غزة والضفة محرومون حتى من دخول مدينة القدس، ناهيك عن وصولهم إلى المسجد الأقصى
لعلّ أبرز ما تضمنته المواجهات أخيراً حديث أقطاب الحكومة الإسرائيلية المتكرّر عن "حرية العبادة" لجميع الأديان في المسجد الأقصى الذي يسمّونه "جبل الهيكل". في السابق، كان الحديث يقتصر على "حرية الزيارة" وكأنّ المقصود هم السياح والزوار المسالمون من غير المسلمين، وقد سبق لبينت أن تحدّث عن حرية العبادة قبل شهرين، لكنّه سحب تصريحه سريعاً، حتى لا يعكّر أجواء قمة النقب. وقد تحدّث هذا الأسبوع كلٌّ من "العلماني جداً" يئير لبيد، ومدير الشرطة عن حرية العبادة، فما كان من بينت إلّا التأكيد على ذلك في جلسة الحكومة، مع العلم أنّ أكثر من 70% من الفلسطينيين من سكان غزة والضفة محرومون حتى من دخول مدينة القدس، ناهيك عن وصولهم إلى المسجد الأقصى الذي يخضع دخوله لشروط إضافية مشدّدة، أبرزها أن يكون سن المصلي فوق الأربعين.
مخطّط الحكومة الإسرائيلية التهويدي الذي يتقاطع مع مشاريع غلاة المستوطنين ينتظر لحظة محلية وإقليمية ودولية مواتية، ليست الظروف مهيأة تماماً، لكن ثمّة ما يغري إسرائيل بالتقدّم خطوات على طريق تنفيذ مشاريعها. محلياً، هناك الانقسام الفلسطيني وضعف أداء القيادة، ثم حالة الضعف والتفكّك العربي ونشوء محور النقب بمشاركة عربية وزعامة إسرائيلية، ثم انشغال العالم بالحرب الروسية على أوكرانيا. لكن، في المقابل، ثمّة مقاومة فلسطينية جماهيرية في القدس، وخزّان من القهر والسخط يتراكم في نفوس الفلسطينيين، والذي يمكن أن تفجره أدنى شرارة، فيندلع على شكل موجةٍ من العمليات الفدائية، مثل العمليات التي ضربت مدناً في الداخل الفلسطيني أخيراً، والتي يمكن لها ولمقاومة القدس وغزّة أن تعصف بكلّ المعادلة والموازين الحالية، وأن تبعثر حتى نتائج قمة النقب.