اقتصاد الكوارث: فرصة زلزال المغرب
من مفردات سياسية لافتة في تصريح والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، أخيراً، أن فاجعة الزلزال، رغم فظاعتها، تشكّل فرصة انتعاش اقتصادي ستنعكس إيجاباً على الاقتصاد المحلي للمناطق المنكوبة وعلى البلاد عامة. والرجل اقتصادي يعي أن هذا الكلام مشروط بسياقات وظرفية وطنية ودولية حرجة وغير مستقرّة، خصوصاً على مستوى السنوات الثلاث الأخيرة حسب تصريحه. ولكن هل تنحصر الفرصة التي جاء عليها المسؤول الرفيع في مجرد الانتعاش الاقتصادي؟ وإن كان الاقتصاد محرّكاً مهماً لعجلة التنمية، فإن هنالك جوانب سياسية كبرى تحتملها معاني هذه الكلمة، أولها أن البلاد قد منحت فرصة أخرى لكي تقوم المسار السياسي الهزيل، إن لم نقل الميت، حيث لا يمكن مطلقاً أن نتحدّث عن أي مخطط تنموي من دون أن ترفده برامج سياسية حزبية خاصة بالأقاليم المعزولة، فالسياسة دوماً حينما يحترم السياسيون فيها أنفسهم تمنحنا برامج تنافسية هامة، قادرة على توظيف كل الكفاءات المغربية الغيورة على مستقبل هذه البلاد، وستمنح الفرصة لكثيرين في المشاركة الفعلية في المسار التنموي المحلي والوطني، بناءً على سياسات القرب التي يحضُر فيها أبناء هذه المناطق بالدرجة الأولى.
يصنف الوالي الأعمال الاقتصادية الرائجة في هذه المناطق ونواحيها بتركّزها حول الفلاحة والسياحة. ولذا، حسب تصريحه، ينبغي استثمار خطّة التعمير وتجديد البِنى التحتية في إحداث انتعاشة سياحية. وهو كلام صحيح، ما دمنا نتحدّث عن أقاليم (كمراكش والحوز وتارودانت وشيشاوة وأزيلال ووارزازات وإداوتنان، بالإضافة إلى إقليم الصويرة الذي تضرّر هو الآخر). هذه الخطة الطموحة، التي تقوم على استثمار الكارثة الطبيعية في النهوض التنموي مجدّداً، ستمتد حسب بلاغ (بيان) الديوان الملكي طوال الخمس السنوات المقبلة، مستثمرة ذلك الغلاف المالي الذي خصّصه البرنامج الاستعجالي الملكي (120 مليار درهم مغربي)، بما يعادل 11% الناتج الداخلي الإجمالي، وإذا ما أضفنا ما جاء في البلاغ عن مسألة تعزيز البنيات التحتية وتحفيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية فيها، فإن هذه المناطق المنسية قد منحت، لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر، فرصة من السماء لتوضع على الواجهة، وتستفيد ما أمكن من هذه المقترحات التنموية الطموحة.
يحظى المغرب بفرصة حقيقية ليعيد التوازن بين مجاله القروي المنسي والمهمّش والمعزول منذ الاستقلال ومدن آخذة في التحوّل السريع وتركيز جميع المرافق والثروات والمؤسسات الحيوية داخلها. إنها فرصة للاعتراف بالدين الثقيل تجاه سكان الجبل، وتجاه الإرث الثقافي والحضاري الكبير الذي يُهدَر ويُضاع عبر تهميش هذه الشريحة من ساكنة المغرب الأطلسي، التي بدأت تستسلم أمام قساوة التغيرات المناخية المتسارعة، بعد أن أنهكتها قلة ذات اليد في كل جوانب الحياة الكريمة، من بنية تحتية ومؤسّسات تعليمية وصحية وتنمية اجتماعية واقتصادية، إلخ.
يحتاج أهالي المناطق المنكوبة إلى طرقات تسهل عليهم عملية التفاعل المحلي بشكلٍ يسهل عليهم إيجاد نوع من الدينامية والتنمية الاقتصادية المحلية
عند النزول إلى أماكن الفاجعة والتقرّب من الساكنة الجبلية هناك، يمكن لأي ملاحظ أن يستخلص قائمة تنموية واضحة في أذهان هؤلاء، أولها البنية التحتية التي تأخرت بشكل مبالغ فيه، فأضرّت بكل إمكانات التطوير والتنمية الممكنة في هذه الأقاليم، يحتاج هؤلاء طرقات تسهل عليهم عملية التفاعل المحلي بشكلٍ يسهل عليهم إيجاد نوع من الدينامية والتنمية الاقتصادية المحلية. بِنى تمنحهم الأمان المستقبلي لأبنائهم في بلوغ مدارسهم واستكمال مساراتهم الدراسية. وثانيها حلّ مشكلة الربط بالماء والكهرباء والاتصالات. وثالثها توفير المؤسّسات التنموية الضرورية، سواء التعليمية أو الصحية. وبنوع من الإلحاح، يحدّثك ساكنو هذه المناطق عن حاجة ماسّة لتطوير قدرات فاعلي المجتمع المدني، ودعمهم مادياً، لأنهم ببساطة يثقون بكثيرين من أبنائهم من غير السياسيين، الذين نجحت كثير من مبادراتهم المدنية في رفع بعض العبء عنهم، ومساعدتهم في تطوير مداخيلهم الاقتصادية.
أما الجانب السياحي، فيمكنه أن يبدأ باستثمار حملة التضامن المغربية الواسعة والمثيرة للاهتمام، حيث يمكن للمغاربة أن يدعموا هذه المناطق أيضاً عبر زيارتها، لاكتشاف إرث أجدادهم المصون في جبال الاطلس، بكل حمولته الثقافية والتاريخية. وعلى مستوى السياحة الخارجية، ينبغي أن تتجاوز هذه المناطق حالات الاستثمار السياحي المعزول والموسمي، إلى سياحة جبلية وثقافية بمواصفات عالية، يمكنها أن تكون رافداً سياحياً متنوّعاً وغنياً ومكملاً لسياحة المراكز السياحية الكبرى.
فرصة للاعتراف بالدين الثقيل تجاه سكان الجبل، وتجاه الإرث الثقافي والحضاري الكبير الذي يُهدَر ويُضاع عبر تهميش هذه الشريحة من ساكنة المغرب الأطلسي
وأخيراً، لا بد من الوقوف عند مسألة التعمير نفسها، التي لا بدّ أن تراعي طبيعة هذه المناطق، وثقافة سكانها، وإرثهم المعماري العريق، فتمزج ذلك كله بنوع من العصرنة اللازمة لمنح هذه المناطق وسكانها ما تستحقّه من كرامة وحقوق.
ستظلّ كل هذه التوقعات حبراً على ورق، وأخشى ما يمكن أن يطاولها، أن تعيد تكرار سيناريو مشروع المغرب الأخضر، الذي كان من نتائجه مزيد من الاستنزاف القاتل للفرشة المائية في المغرب، واستفادة نخبة من الفلاحين الكبار على حساب التنمية المحلية التي لم يطرأ عليها تغيير ملموس ونوعي. هذه كلها تخوّفات تغالب ظن جميع المغاربة احتمال تكرارها. وحينها ستؤول هذه الفرصة نفسها إلى ما آلت إليه فرص سابقة، فنرجع إلى عيش الفاجعة بشكل مضاعف في كل مرّة!