15 نوفمبر 2024
"الآداب" إلكترونيةً... تحية محبة
الخبر غير عادي، موجزه أن مجلة الآداب، العتيدة العريقة، البيروتية العربية (العكس صحيح) تستأنف في أكتوبر/تشرين أول الجاري، إصدارها، بعد توقف قصير (نحو ثلاث سنوات)، إلكترونية، وبتحديث عصري وطموح. والأكثر مدعاة للغبطة أنها تيسّر كل أرشيفها منذ عددها الأول في عام 1953، وفي وسع زائر موقعها أن يطالع أعداد أول عامين لها، مع وعد رئيس تحريرها، سماح إدريس، بأن تكتمل كل "الآداب" في 58 عاماً في غضون 16 شهراً. ومن المناقبية الثقافية الرفيعة، أن يُشيع هذا كله سروراً كثيراً بين أهل الأدب والفكر والثقافة العرب، ومن كل الأجيال، فمقادير البهجة والإفادة في هذه الثروة التي تُتاح أمام الجمهور العام، مجاناً، ليس في وسعك عدّها، لأنك أمام مقطع شاسع من المشهد الثقافي العربي، في أزيد من نصف قرن، شهد التجارب والسجالات الحيوية في الشعر والقصة والنقد والرواية في الوطن العربي. ولا حاجة للتذكير بالبديهي المعلوم، أن "الآداب" لم تكن مجلة فحسب، بل خياراً ثقافياً وفكرياً، عروبياً قومياً وطنياً في الأساس، في ذروة احتدام التطلعات العربية إلى التحرر واستكمال الاستقلال، والعبور إلى بناء الدولة الوطنية.
ظلت المجلة، بجهدٍ رسولي وكفاح مثابر، لصاحبها ومؤسسها، الراحل سهيل إدريس، وفيّة لما قامت عليه، إبّان بواكير الحداثة العربية في الشعر والقصة والمسرح والرواية، وواظبت على تجدّدٍ لم تغادره، وهي تنفتح على الأصوات العربية المتنوعة، وعلى احتكاك الأفكار والمغامرات الإبداعية المتنوعة. ولذلك استحقت مكانتها الريادية، والتأسيسية، وحظيت بالتقدير الدائم لجدارتها في الانتظام، وفي مفاجآتها الدائمة، قبل أن يطرأ على الحال العربي ما نعرف من خرابٍ، ومن تراجعٍ ظاهر في المستوى العام للإبداع العربي، وقبل أن تختلّ ثوابت وطنية وقومية وعربية، وقبل أن تستجدّ حساسيات شبابية على غير هوى "الآداب" ومضامينها، وقبل أن يصير الازورار عن القراءة مقلقاً وشديد الوضوح.
قاومت المجلة العربية الشهيرة ما أمكنها، ونجحت وأخفقت، وأجادت وفشلت، وربما لم يسعفها الاحتماء بدورها الجوهري في عقود النهوض الأدبي الذي تبدّى في الحرائق التي أشعلها شعراء الخمسينيات والستينيات وقصاصوها وروائيوها ونقادها، من مصر والعراق والمغرب وفلسطين ولبنان وسورية مثلاً، في الكتابة الإبداعية العربية. لم ينقذ "الآداب" ذلك الماضي الجميل، وهي تغالب أوضاع السوق والمقروئية وأحوال النشر والتوزيع، وغير ذلك من تفاصيل تتعلق بمزاج آخر صار نافذاً في الحال العربية. حاولت المجلة التي نحب أن تنتصر. ولكنْ، لكل أزمنةٍ تصاريفها وشروطها. وهذه الوثبة الجديدة، في الإيقاع الإلكتروني العصري الجذّاب، والذي تصدر فيه الآداب، منتظمة، في طورها الجريء والطموح، تعد بكثيرٍ من أسباب النجاح، وإنْ يحتاج الأمر دأباً ومثابرةً لا تستسلم أمام أي عثرات وصعوبات مرجحة، ويحتاج يقظةً واجبة في البحث دائماً عن الشبابي المجتهد، وعن الروح المناوئة لكل تقليدية ورتابة، مع الانحياز التام لكل أفق للحرية والديمقراطية وتطلعات الشعوب العربية، في كل مطرح، نحو التحرر من الاستبداد والتسلط، ومن الأصوليات التكفيرية القاتلة، ومن أي رجعيةٍ ترتدي أي ثوب.
يعدنا رئيس التحرير، سماح إدريس، بالكثير المفرح في "الآداب" الإلكترونية، ويبشرنا بأنها ستكون ضاجّة بالحياة، وغزيرة ومتنوعة، وبأنها ستحمي ذاكرتها. ولا يملك الممسوسون، مثلنا، بحبّ كل مشروع ثقافي تقدمي وإبداعي، إلا أن يؤازروا إدريس ومعاونيه في هذا الجهد، فالأمل أن تتقدم "الآداب" إلى مواقع أولى، وأن يستنير الشباب العربي القارئ، وغير الشباب أيضاً، بالعتاد البديع في أرشيف هذه المجلة التي أخذ منها محمود درويش أصابعه، وكان نشر قصيدة فيها هو ما يصيّر كاتبها شاعراً، على ما قال صلاح عبد الصبور. .. هي تهنئة، هنا، لأنجال الراحل الكبير سهيل إدريس وأسرته وتلاميذه، إذ يواصلون مشروعه، وبالروح التي تؤاخي الالتزام الوطني والقومي مع الحداثة والمغامرة الإبداعية. أحببنا "الآداب"، في زمن الورق الذي مضى، والرهان على أن نحبّها في الزمن الإلكتروني أيضاً.