إذا ما زُلزِلَ "الأبَدُ" الأسدي على إيقاع رقص الحلفاء
تتواتر المؤشّرات إلى تخلخل أركان العرش الأسدي، وهذا غير مسبوق، بالنظر إلى أنّ علّة وجوده كانت محطّ جدلٍ عقيم حتى وقتٍ قريب. بالتالي الحديث عن مصير بشّار الأسد يبدو حواراً كاريكاتورياً عندما يحلو وصفه كملهاةٍ هزلية جاءت تكراراً ممجوجاً لحكاية والده. أما الوجه الواقعي لهذه المبالغة الشعرية فهو أنّ السوريين كانوا يعيشون كما لو أنّ تغوّل نظام الأسد من طبائع الأشياء وبديهيات الحياة السورية، إذ لم يكن مجرّد كانتونات مخابراتية وقضاء متذيل وإعلام دنيء، بل اسماً شائعاً لماكينة قمع عنصرية، تمارس الانتهاك المستمر مع استحالة توقّع العواقب، كأنما المقصود خلق منعكس شرطي يربط فكرة نهاية حكم الأسد بهذه المستويات العالية من الإبادة الجماعية، ومعاملة السوريين كأطفالٍ قُصّر، بإشغال موقع أبوة سياسية قسرية، حتى يسبيهم شعور متمكِّن بأنهم نكرات وقليلو الشأن، قياساً بآخرين يبدون أرفع شأناً وأعلى اعتباراً. ولعلّ في هذا ما يسعف في تبيّن الإفلاس الشامل الذي وصلت إليه البلاد. ولا يحتاج المرء إلى تنبّهٍ خاص لتبين مخاطر الحكم السلطاني المقدّس و"عقدة مصير الأسد" التي غدت الهاجس المركزي لنظامٍ دأب على تقديم نفسه للغرب على أنه جهاز وظيفي يقدم خدمات جليلة في الإقليم، رغم أنّ موتَ الطغاة، وإنْ تجنح دائماً نحو التفاهة الدموية، حرمةٌ متعوب عليها لأنها تقارب حدّ التأليه، إلا أنّ التغير هو سمة الأشياء الثابتة. مات مهندس مملكة الرعب "الخالد"، وسينتهي الوريث المدلل ذات يوم بشكل من الأشكال، فعلائم انفضاض القاعدة الاجتماعية المباشرة حوله، وإنْ فردية، باتت تعبر عن مزاجٍ أوسع، وبصيصٍ من أمل مكمون.
ولعلّ تغييراً معرفياً في سياق المفاهيم المعممة بات مطلوباً كذلك، رغم أنّ النظام الأسدي لم يقم يوماً على تحالفٍ اجتماعي قد يدخل شيئاً من المرونة والتعدد، فيتيح للسوريين هامش مناورة حيال التفكير بنهايةٍ حاسمة للتراجيديا السورية، لكن إذا نظرنا في أصول هذا الفقر المعرفي، يتضح أنّ مريدي السلطة لم يتوانَوا عن اختصار سورية كدولة وكيان في شعار "سورية الأسد"، كتعبيرٍ عن أيديولوجيا دوغمائية وبنية تفكير فاشية، وهذا يتوافق، بالمطلق، مع تجريد السوريين من المعنى السياسي والاكتفاء بما لديهم من شظايا حكم عائلي على علّاته. وليست أحكاماً مسبقة أو انحيازات محلية ضيقة الأفق الجزم بأنّ تقسيم سورية والتبعية العسكرية والاقتصادية لروسيا وإيران هو استمرار للطغمة الأسدية، وليس عارضاً أصابها ولا هو في قطيعة معها. إنها باختصار وليدة مطلب "الأبَد" الأسدي، وفيه ثمة سياسي واحد، كان فرداً أيام الأب، وهو عائلة متجبّرة أيام الابن، فإذا سقط "الحامل سياسي" فرط النظام وتبعثر. الحلفاء يدركون ذلك جـــيداً، لذلك أظهروا مقداراً من التــشدّد المريب في دعم بشار الأسد، الذي مضى إلى أقصى حدود التخبّط لحماية ملكه، ويبلغ بحسب تقدير جهاز المخابرات البريطاني "إم أي 6" مائتي طن من الذهب و16 مليار دولار وخمسة مليارات يورو.
مات مهندس مملكة الرعب "الخالد"، وسينتهي الوريث المدلل ذات يوم بشكل من الأشكال
مما تقدّم نخلص إلى فائدة مثلى وهي اختلاف الرؤى السورية حول سبل الانعتاق من ربقة استبداد الأسد الذي بدوره يعيش في ظلّ مناخٍ ملتبس من الأفعال المذلّة من قبل الحليفتين، والتي تفضح زيف التصورات حول "قداسة" عائلة الأسد وخلود عرّابيها، والنيّة المبيتة، بالطبع، سحب بساط السيادة من تحت قدمَيها. ولعلّ المعطيات كثيرة، ليس بداية بالفيديو الشهير الذي ظهر فيه عسكري روسي وهو يمنع رئيس النظام السوري من اللحاق بالرئيس الروسي لدى زيارته قاعدته العسكرية في "حميميم" السورية، فهزّ الأسد رأسه موافقاً على المَنع صاغراً، مروراً بالخبر الذي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية ومفاده ظهور موقف إيراني جديد وحادّ ضد النظام، يتمثل في: لا نفط رخيصاً، ولا نفط قبل الدفع مقدماً، بينما كانت إيران تمنح الأسد النفط بنصف سعر السوق، وبتوقيت دفع مرن، ومعظمه بالدَيْن. وليس نهاية بإصدار قانونٍ جديد لـتنظيم عمل "الاتحاد الوطني لطلبة سورية"، واعتباره منظمة شعبية طلابية تتمتع بالشخصية الاعتبارية و"الاستقلال" المالي والإداري. ويبدو هذا القرار أشبه بخطوة صريحة لفصل هذه المنظمة عن جسم البعث وسيطرة أمينه العام، وهو الأسد بطبيعة الحال. إذ معروف للجميع أنه ومنذ تأسيس الاتحاد استخدم بشكلٍ خبيث وممنهج في تسييس وتدمير العملية التعليمية في سورية والسيطرة على عقول الشباب حسبما ترتئيه قواعد الذهنيات والمسالك في السلطوية الأسدية، لتغدو الجامعات بيئة خصبة تعج بالمخبرين وكُتّاب التقارير، الذين ارتكبوا بعد 2011 انتهاكات جسيمة بحقّ الطلاب والمدرسين الموالين للثورة السورية.
علائم انفضاض القاعدة الاجتماعية المباشرة حول الأسد، وإنْ فردية، باتت تعبر عن مزاجٍ أوسع، وبصيصٍ من أمل مكمون
على التوازي، ينطبق على بشّار الأسد حرفياً ما قاله سيّد قطب يوماً: "الجيوش العربية التي ترونها ليست للدفاع عن الإسلام والمسلمين وإنما هي لقتلكم ولن تطلق طلقة واحدة على اليهود". ورئيس جمهورية الكبتاغون الذي لم يعد يحظى برفاهية "البقاء المُستدام" بعدما جرّدته الحليفتان من معظم أوراق القوة لديه، وراحت تمارس بدورها إحدى أهم مُتَعه المفضلة وهي سياسة الرقص على حبال السياسة، بات كل ما يفعله اليوم أنه يتحدث حديثاً فاتراً عن الدماء السورية منشغلاً عن القضايا العربية الملحة، واصفاً الثائرين على سياسته بالتافهين و"الرويبضة" دون القدرة على طرح أفق سياسي استراتيجي لانتصاراته الوهمية التي أدّت إلى أخطاء تاريخية وفرصٍ ذهبية لم يتم انتهازها. هذا يقودنا بالضرورة إلى معطى آخر يدلّل على تحجيم سلطة الأسد وهو غياب أيّ موقفٍ رسميٍّ صادر عن الحكومة السورية "يدين" الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، على اعتبار أنّ نظام الأسد بنى أسطورته الخاصة من خلال المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وتوظيفها لاكتساب الشرعية العربية، مع تفاهماتٍ تحت الطاولة مع إسرائيل والولايات المتحدة بشأن "الخطوط الحُمر" لدى كل جانب، هو الذي يدرك جيداً أنّ المجتمع الدولي الذي غضّ النظر عن دوره المحوري في تحويل سورية إلى أكوامٍ مهولة من الخراب المستباح لن يشغل نفسه بمقتل عدة آلاف من "الحيوانات البشرية"، على حد تعبير وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت.
وبدون كثير من جهد، تقودنا الوقائع السابقة إلى حقيقة مطلقة وهي أنّ التركيبة المصمتة للمملكة الأسدية في حالة غليان وتآكل لا تستطيع معها تحقيق التوازن والاستمرار، ما سيجعل من نهايتها حتمية تاريخية لا رادّ لها. يقول الأميركي مارك مانسون في كتابه الشهير فنّ اللامبالاة: (السيئ سيئ وعلينا أن نتعايش معه)، وهنا الكاتب لا يتهرّب من الحقائق المفجعة ولا يغفلها بالسكر، بل يمضي بانتشاء إلى أقصى حدود الفجاجة، وبالبناء عليه لا شك أنّ بقاء الأسد على عرش الخراب جرعةٌ من الحقيقة الفجّة المنعشة، وهي ما ينقص السوريين اليوم: الإدارك اليقيني بأنه لا يبقى من الطاغية سوى ذكرى غائرة في العدم، لأنه ببساطة ثلّة ركيكة من المتناقضات، انقلابي ومُنقَلِب عليه، يموت مخلوعاً من طرف شعبه ومغدوراً من حلفائه على حدّ سواء.