الأرض لنا
لقد فعلوها، وأشعلوا الربيع الفلسطيني الجديد. أشعلوا انتفاضة ثالثة ورفعوا العلم الفلسطيني في أماكن لم يُرفع فيها منذ النكبة. فعلها شباب القدس وعرب الـ 48، أعادوا البوصلة إلى مكانها، البوصلة التي حاولت الأنظمة العربية إخفاءها عن الوجود، فكل ما فعلته هذه الأنظمة، منذ أول الربيع العربي، كان يصبّ في مصلحة دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، بقدر ما هو ضد شعوب الربيع العربي. كل القتل والتهجير والخراب لم يستفد منه سوى إسرائيل التي لم تحقق من المكاسب، طوال وجودها، كما حققت خلال السنوات العشر الماضية. كل ما حولها مدمّر أو مخرّب، من كانوا يدّعون عداءها ومقاومتها أظهروا وجوههم الحقيقية. كانت سماء سورية بمثابة ملعب لها، تنفذ طلعات متواصلة وتقصف أهدافها وتعود من دون أن يتعرّض لها أحد، فالجيش السوري وحزب الله مشغولان بقتل السوريين وتدمير سورية، وروسيا (وضعت سورية تحت انتدابها) تغض النظر عن تلك الطلعات التي تعلم بها مسبقا. كل الدول المحيطة بإسرائيل قدّمت لها خلال العقد الماضي هدايا انتهت بمهزلة التطبيع أخيرا، وعبور الطيران الإسرائيلي المدني، لأول مرة، فوق أماكن مقدسة، كانت محرّمة، برّا وجوا، على كل ما يمتّ لإسرائيل بصلة، وتهافت غير مفهوم نحوها، وديباجات غزل بهذه الدولة، "الحضارية" كما أطلق عليها أحد مثقفي الدول المطبعة.
فعلها شباب فلسطين. أسقطوا ما حاولت أنظمة الاستبداد والإجرام العربي تكريسه لدى شعوبها خلال السنوات العشر الماضية، أن دولة إسرائيل هي "واحة الحرية والديمقراطية" الوحيدة في المنطقة، وهو ما كادت شعوب المنطقة تؤمن به وتروّجه، إذ ما شهدته من إجرام أنظمتها تجاوز بمراحل إجرام دولة الاحتلال. ولعل المقارنة المريرة بين صور المتظاهرين في القدس يقادون إلى الاعتقال، وابتسامة متفائلة تغطي وجوههم، ومشهد الخوف المهول على وجه أي متظاهر سوري في أثناء الثورة، تكفي لفهم التغيير الذي حصل في وجدان الشعوب العربية تجاه إسرائيل. بيد أن شباب فلسطين فعلوها، فالجنون الذي اجتاح دولة الاحتلال، واستنفار كل أجهزتها للوقوف في وجه متظاهرين عزّل (قبل الصواريخ)، أعاد الصورة الحقيقية لهذا الكيان، نظام أبارتهايد عنصري ومجرم. أما المقارنة فلا تعني شيئا أبدا، إذ يعرف من يقرأ التاريخ أن وجود هذا الكيان، ووجود الأنظمة العربية بشكلها المكرّس منذ سبعين عاما، هو تلازم ضروري للاثنتين، المنظومة العربية الحاكمة ودولة الكيان. من لديه شك فليعد إلى التاريخ قليلا، حيث يرى المنفعة المتبادلة بينهما، وكيف حمت الأنظمة العربية إسرائيل، وضربت المقاومة الفلسطينية في كل مكان. وفي المقابل، كيف حمت إسرائيل هذه الأنظمة، ودعمت بقاءها بعد الربيع العربي بكل ما لديها من نفوذ دولي، وهو ما تعرفه الأنظمة العربية جيدا. لهذا توجّه إلى أذرعها الإلكترونية لتشويه صورة الفلسطيني، وتحميله مسؤولية ما حدث، عبر إعادة سردية بيعه أرضه في القرن الماضي قبل النكبة، مستغلةً التغييب الذي حصل للشعوب العربية خلال العقود الماضية، وإلهاءها عن الانشغال بالسياسة، وتكريس شوفينية قومية بغيضة لدى كل شعب عربي على حدة.
فعلها فلسطينيو الـ48. أثبتوا للعالم أجمع أن كل محاولات التهويد التي اشتغلت عليها دولة إسرائيل خلال عقود لم تُجد نفعا، لا مناهج التعليم ولا إحلال اللغة العبرية بدل العربية، ولا جوازات السفر الإسرائيلية التي تسهّل لحاملها التنقل بين كل دول العالم، ولا محاولات دمجهم بالدولة اليهودية. لا شيء من ذلك كله قدرعلى اقتلاع الفلسطيني من جذوره وأصله وانتمائه ولغته. خرجوا يهتفون في وجه العرب الذين لطالما خونوهم ونبذوهم، قبل الهتاف في وجه الإسرائيلي: نحن فلسطينيون، مسلمون ومسيحيون فلسطينيون، جذورنا هنا. والخديعة التي قامت عليها دولة الاحتلال آن لها أن تنكشف وتفضح وتنتهي. نحن لم نخن، ولم نبع، ولم ننس جذرنا. نحن فلسطينيون، ولسنا عرب إسرائيل. وهذه الأرض لنا بكل ما فيها. أما العابرون فمهما طال وقتهم سوف يرحلون، ونسترجع حقنا في الأرض، وحقنا في رواية التاريخ، وحقنا في الحياة التي نحبها.
هل سيبدأ ربيع العرب الجديد من فلسطين؟ هل ستكون الانتفاضة الفلسطينية الثالثة بداية ثانية للربيع العربي؟ ليس الأمر بهذه السهولة حتما، إذ يدرك النظام العالمي الحاكم الذي فعل ما في وسعه لإفشال الربيع العربي أن أي تغيير في المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية سوف يتبعه تغييرٌ في المنظومة العربية الحاكمة. يدرك النظام العربي هذا أيضا، مثلما تدركه دول الإقليم، سيجتمعون كلهم ضد انتفاضة الأرض المحتلة كما اجتمعوا ضد الربيع العربي، غير أن البوصلة لن تتوه مجدّدا، أو على الأقل هذا هو منطق التاريخ.