الأزمة في لبنان على وقْع السيجار
نشر موقع Statista للإحصائيات العالمية ما مفاده أن لبنان أعلى بلد مستهلك للسيجارعالميًا، متفوقًا على الولايات المتحدة وقطر ولوكسمبورغ. وهذا فيما يعاني لبنان من أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، إذ وصلت معدلات التضخّم إلى 90%، ومع ذلك، ما زال استهلاك السيجار مستمرًا.
ساهمت أسوأ أزمة مالية مرّت على البلاد في التسبّب بفوضى سياسية واقتصادية في 2019، تلاها انتشار جائحة كورونا في 2020، وجاء انفجار مرفأ بيروت ليزيد في "الطين بلّة". كما أن مشكلة لبنان تكمن في توزيع السلطة وفقًا للانتماء الديني، إلى جانب تواطؤ المصالح السياسية المتنافسة، ما جعل التوصّل إلى انتخاب رئيس للبلاد محالًا، إلا من ضمن تسوية كبرى.
لا يكفي أن اقتصاد لبنان منهك، بل يعيش اليوم حالة من التخبّط على المستوى السياسي بين مسؤوليه حول الشخصية التي يجب أن تتولى سدّة الرئاسة. دعا رئيس المجلس النيابي نبيه برّي المجلس للانعقاد في 14 يونيو/ حزيران الجاري من أجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد إعلان قوى المعارضة والتيار الوطني الحرّ ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، لكن من الواضح أنها دعوة تأتي لمجرّد رفع الإحراج عن نفسه، فالمتوقّع أن تشبه الجلسة المقبلة الجلسات السابقة.
على وقع الاستحقاق الرئاسي، يتأرجح لبنان واللبناني معه في أزماته التي لا تعرف مخرجًا لها، بسبب الانقسام العمودي الحاصل بين مكوّناته، إذ بدأ خطاب الثنائي الشيعي، وتحديدًا حزب الله، بالتصعيد السلبي ضدّ ترشيح أزعور، وبات يصفه بمرشّح التحدّي، الأمر الذي يعني أن وصوله إلى بعبدا هو انكسار للحزب. وبهذا، يكون حزب الله قد قطع الطريق على نفسه أمام أي تنازلٍ أو تفاوض حول اسم أزعور الذي بات خصمًا للحزب، أقلّه إعلاميًا.
لطالما كان تدخين السيجار رمزًا للعقلانية والهيبة الاجتماعية والقوة السياسية
الاصطفاف السياسي والنيابي الذي حصل في الأيام الماضية، وتحوّل، بشكل أو بآخر، إلى انقسام بين اللبنانيين، يعني أن تنازل أي طرفٍ سيكون انكسارًا كبيرًا له، وهذا يوصل إلى استمرار الكباش إلى ما لا نهاية، ويؤدّي إلى استمرار الفراغ الرئاسي في ظلّ انهيار اقتصادي في لبنان.
بموازاة كل ما سبق، يعيش لبنان موجة هجرةٍ جماعيةٍ للفئة الشابة خصوصا، كما انكمش الناتج المحلي الإجمالي في غضون أربع سنوات بنسبة 70%، وارتفع التضخّم بشكل هائل. ذلك كله وما من دلالة على أن المسؤول يدفع نحو إجراء أي خطوة نحو الإصلاح سوى "التنفيخ" بالسيجار، تطبيقًا للمثل الشعبي "نفّخ عليها تنجلي".
وتحيط بمدخّن السيجار هالة من الفخامة والعيش برفاهية عالية، سواء كان ذلك مجرّد تسريب لطيف أو عادة متأصّلة، إذ لطالما كان تدخين السيجار رمزًا للعقلانية والهيبة الاجتماعية والقوة السياسية.
وقد لاحظ رئيس مجلس إدارة شركة "إستي لاودر" للمستحضرات التجميلية "ليونارد لودر"، في عام 2001، زيادة مبيعات أحمر الشفاه بنسبة 11% على الرغم من وضع الركود الاقتصادي الذي ساد الولايات المتحدة عقب أحداث "11 سبتمبر"، ولوحظ تكرار هذا السلوك الاقتصادي خلال فترات الأزمات المهمة، مثل انهيار سوق الأسهم المالية في عام 2008. ومن خلال تلك الملاحظة، يدرك المتابع أن المستهلكين سيشترون السلع الكمالية حتى في وجود أزمة اقتصادية، بهدف الحفاظ على نوع من الرفاهية، ورفع المعنويات التفاؤلية، وتناسي الأزمة. لكنهم يشترون تلك التي تكون أسعارها زهيدة بحسب ملاحظة ليونارد في السوق الأميركية، فهل هناك دلالة مغايرة عند اللبناني لتهافته على شراء السيجار، وهو من الكماليات غالية الثمن؟
بات اللبناني عاجزاً أمام تراكم الأزمات، التي تخضع، في معالجتها، لدونكيشوتية مسؤوليه
صحيح أن المستهلك سيميل إلى شراء سلع كمالية لها تأثير أقلّ في الموارد المالية المتاحة لديه، لكن الواقع في لبنان مختلف، حيث يتوجّه المستهلك إلى شراء الكماليات الأغلى ثمنًا رغم "الجحيم" الذي يعيشه. ولا أحد في لبنان يستطيع إنكار الحالة "الجحيمية" التي يمرّ بها البلد، لكن المستغرب أنه رغم الأزمة الكبرى، إلا أن نمط الحياة عند الأغلبية عاد إلى ما قبل عام 2019، وكأن اللبناني "تأقلم" مع الوضع، ولكن بفارق بسيط هو فقدانه الثقة.
ليس مستغربًا على اللبناني التوجّه نحو السيجار أو حتى شراء نوعٍ كهذا من السلع، بسبب فقدان ثقته بالدولة التي أصبحت في حالة من "الموت السريري"، حيث لا يتوقّع منها أن تقوم بالاصلاحات المطلوبة كي تكسب دعم المؤسّسات الدولية، في مقدّمها صندوق النقد الدولي. إضافة إلى ذلك، فقد اللبناني ثقته بالقطاع المصرفي الذي كان أكثر من 30 عامًا مركز الاهتمام له من خلال عملية الإيداع في المصارف.
أما اليوم، وبعد حالة اللاثقة المسيطرة على الرأي العام، يتوجّه اللبناني إلى الاستفادة من أمواله عبر الاستهلاك، بدل ادّخارها وخسارتها نتيجة سلسلة من التعميمات التي أطلقتها حاكمية مصرف لبنان، والتي تتعلّق بعمل المصارف بحقّ الودائع مع دخول البلاد الأزمة. لم يعد هناك ما يخسره اللبناني، كما إنه بات عاجزًا أمام تراكم الأزمات التي تخضع، في معالجتها، لدونكيشوتية مسؤوليه، الأمر الذي يجعله يتخبّط بين يأسٍ من واقع لا مخرج له وعقلية العيش برفاهية عاشها منذ الطائف، اعتمدت على تثبيت عملته مقابل سعر صرف الدولار، الأمر الذي أدخل البلد في عجز مالي واقتصادي أوصله إلى الجحيم.