الأساس الفلسطيني للتطبيع
ندّد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بانضمام السودان إلى قافلة التطبيع مع إسرائيل. ليس موقفه جديداً، إذ دان سابقاً إقدام الإمارات والبحرين على خطوة مماثلة قبل أقل من شهرين، غير أن البيان الصادر عن رئاسة السلطة الفلسطينية تضمن جملة بالغة الدلالة، نصّها "لا يحق لأحد التكلم باسم الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية". كما لو كان عباس يرفع أي مسؤولية أو التزام عن الدول العربية تجاه الفلسطينيين، وكأن العرب يُقحمون أنفسهم فيما لا شأن لهم به.
بالتأكيد، لم يكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ينتظر موقف عباس، ليعلن أن خمس دول أخرى في المنطقة تسير على الدرب نفسه، وتقترب من التطبيع مع تل أبيب. ما يعني أن نصف الدول العربية تقريباً ستقيم علاقات مع الدولة العبرية، وهو تطوّر يتجاوز، في دلالاته، فكرة العلاقة مع الكيان بحد ذاتها، فالمغزى الكامن في هذه الهجمة التطبيعية يتجاوز بمراحل تراجع مكانة الصراع مع إسرائيل ووزنه في قائمة أولويات الدول العربية، فيصل إلى حد إسقاط جذور العداء وإلغاء أسباب رفض أي تفاعل إيجابي بين العرب وإسرائيل وإنكاره. وفي هذا السياق، كثير يقال حول أسباب تلك النقلة الجذرية ودواعيها في الإدراك الرسمي العربي للكيان المغروس في خاصرة العرب.
أول تلك الأسباب، وأهمها، التغير الذي طرأ على طبيعة الصراع وأساسه في الذهنية العربية، فقد كان الصراع دينياً بامتياز، ليس بين أديان أو عقائد، وإنما بين قناعاتٍ وتعاليم خاصة بكل دين. وهو ما انعكس في اعتباره صراع وجودٍ لا صراع حدود، غير أن نزع البعد الديني والأساس العقائدي أفضى إلى اعتباره مجرّد مشكلة احتلال أرض، أي صراع سياسي. ومن هنا، بدأ التخلي وتوالت التنازلات والحلول الوسطية وتجزئة الملفات وترحيل الخلافات الجذرية، خصوصاً قضايا القدس وحق العودة. وجسّدت تفاهمات أوسلو نموذجاً لتلك التغيرات الجوهرية في مفاهيم إدارة الصراع ومنطلقاته.
لم يقتصر هذا التحول على الفلسطينيين، بل كان بقية العرب أكثر تلهفاً على التوصل إلى أي تسوية، ولو جزئية أو غير عادلة. ولم يعد الهدف إنهاء عادلا للصراع، أو إعادة الحقوق العربية المسلوبة، أو تأمين حد أدنى من الحقوق الفلسطينية المستباحة. وإنما التخلص من عبء القضية ومسؤوليتها، بأزليتها ومسؤولياتها الدينية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية، فصار الهم العربي كل حين معالجة الأوضاع المعيشية المأساوية للفلسطينيين. إضافة إلى استمرار التفاوض والتنسيق الأمني بين السلطة في رام الله وتل أبيب. وتثبيت الهدنة والقنوات غير المباشرة بين حركة حماس والإسرائيليين.
لا ينسى أحد أن الفلسطينيين هم من بادروا إلى الانسلاخ من الإطار الجماعي العربي، فلم تكن اتفاقية أوسلو المفاجأة الوحيدة للجميع، بمن فيهم بعض كبار قيادات العمل الفلسطيني أنفسهم. فقط كانت بداية لسلسلة ممتدة من التغريد الفلسطيني خارج السرب، فلم يعد سرّاً أن حركة فتح وقياديي السلطة الفلسطينية صاروا يستقوون بالعلاقات مع إسرائيل، وليس العرب، في مواجهة تغوّل حركة حماس ثم انفرادها بحكم غزة. بينما تستقوي "حماس" بالعلاقة مع إيران أحياناً، وتركيا أحياناً أخرى، فيما علاقاتها مع معظم الدول العربية حرجة ومعقدة.
إذا كان هذا هو حال الفلسطينيين، في ما بينهم وفي إدارتهم الصراع مع إسرائيل، فلا يمكن ولا يجب توقع أن يكون بقية العرب أكثر حرصاً أو تحمّلاً للمسؤولية من أصحابها، بعد أن تحوّلت القضية من عربية وإسلامية إلى فلسطينية حصراً.
نعم، التطبيع العربي مع إسرائيل كارثي، وطعنة في ظهر الفلسطينيين وخيانة لمقتضيات العدل والحق. لكنه نهاية طريق طويل من تسطيح الصراع وتفريغ المشكلة من جوهرها. وكانت بداية هذا الطريق بأيدي الفلسطينيين أنفسهم، وليس أي طرف آخر.