الأصل هو ثقافة الشعوب
حين يُسأل عن أهم المغنين الفرنسيين في العصر الحديث، يكون اسم الراحلة الإيطالية المصرية داليدا في المقدّمة؛ مع أنها لم تولد في فرنسا بل في مصر، وانتقلت إلى باريس في سنٍّ متقدّمة، لكن موهبتها ظهرت في فرنسا وعاشت حياتها كلها في فرنسا، وحين قرّرت إنهاء حياتها فعلت ذلك في غرفة نومها في بيتها الفرنسي، لتُدفن في مقبرة مونمارتر الشهيرة التي تعدّ ثاني أهم مقبرة للعظماء في فرنسا بعد البانثيون. لم يعترض فرنسي واحد على ذلك، بل العكس، كانت داليدا بالنسبة للفرنسيين صوتاً فرنسياً يفاخرون به ويعتزّون به. كانوا مقتنعين تماماً أنها تستحقّ أن تدفن في مقبرة المشاهير والعظماء الفرنسيين، فهي بالنسبة لهم فرنسية تماماً، لا أصلها الإيطالي ولا مولدها المصري ألغيا هذا الاعتقاد. وللعلم، تضم مقبرة مونمارتر رفاة كثيرين من غير الفرنسيين ممن اختاروا مدينة النور باريس لتكون منطلقاً لإلهامهم وإبداعهم، كالفنان الهولندي الفرنسي آري شيفر، وراقص الباليه الروسي البولندي فاسلاف نغينسكاي، والشاعر الألماني هاينرش هاينه، وكثيرين جداً من غير الفرنسيين الذين تُفاخر باريس بأنهم اختاروها للعيش والإبداع دوناً عن باقي العواصم الأوروبية، وهو ما استحقّوا عليه تكريماً مُضافاً لاعتبارهم فرنسيين، حتى لو لم يتقدّم أحدُهم بطلب الحصول على الجنسية، وهو الدفن في مقبرة المشاهير الفرنسيين عند رحيلهم.
الأصل إذا في التعامل مع المبدعين في الفن والأدب والفكر والعلم، أينما كانوا، هو في اختيارهم المكان الذي يرغبون العيش فيه، ويرغبون أن يكون هو نقطة انطلاقهم حين يشعرون أن باقي العالم أضيق من مواهبهم وأحلامهم. كانت فرنسا، وباريس خصوصاً، ذات يوم هذا المكان لكثير من مبدعي العالم، وكانت بمثابة منارة لهم. حين يتوهون سوف تدلّهم باريس على الطريق الصحيح، حيث للفن والإبداع والفكر حرية الخطاب والقول المطلقة. لم تكن فرنسا دائماً في أحسن أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهي تستقبل قاصديها، كي نقول إن للفرنسيين رفاهية استقبال اللاجئين لهم واعتبارهم فرنسيين من دون تردّد؛ ذلك أنها كانت دائماً في كل عصورها ومراحلها التاريخية تلك المنارة، وليس فقط في العصر الحديث بعد استقرار الجمهورية واعتماد شرعة حقوق الإنسان والنظام العلماني والمواطنة، لكن متغيّرات القرن الحادي والعشرين بأحداثه كلها عزّزت في فرنسا الحركات العنصرية والنازية الجديدة ما جعل العلاقة مع اللاجئين والوافدين إليها تشهد توتّرات كثيرة لن تترك شعبها منفتحاً مع الغرباء كما كان دائماً.
لعبت مصر ذات يوم الدور الذي لعبته فرنسا مع المبدعين العرب، خصوصاً القاهرة والإسكندرية (عاش فيها أيضاً كافافي وأونغاريتي ولورانس داريل). فمع بدايات القرن الماضي، شهدت مصر هجرة قوية خصوصاً من بلاد المشرق العربي، كانت مصر مركزاً أساسياً لكل من يودّ من العرب التميز والتفوّق في الفن والسينما والغناء والموسيقى والصحافة والأدب والمسرح، وإن بدأنا في التعداد وذكر الأسماء سوف نجد أمامنا قائمة طويلة في المجالات كلها، حتى في صناعة النسيج، كلهم استقبلتهم مصر والمصريون، وهضمتهم وأعادت إنتاجهم كما لو أنهم أبناؤها الحقيقيون. وهم، في المقابل، تعاملوا مع مصر كما لو أنها بلدهم الأول، سواء في إتقانهم اللهجة المصرية، أو في حالة التأثير والتأثر بالثقافة العامة المصرية، وفي القدرة على مزج ثقافات مختلفة في مجتمع مرحّب بمختلف الثقافات (كوزوموبوليتاني) بكل معنى الكلمة.
كانت مصر السابقة في ذلك عربياً، ليس فقط بسبب حجمها ومركزيّتها بل أيضاً بسبب الثقافة الشعبية المنفتحة التي كان المصريون يتمتّعون بها وقتاً طويلاً، والتي تجعل من الغريب يشعر كما لو أنه ابن البلد، قبل أن تبدأ مجموعاتٌ تتباهى بالانتماء إلى العرق المصري الصافي (هل يوجد عرق صافي حقّاً مصري أو غير مصري؟) وتنتظر أي خطأ من أي شخصٍ غير مصري (مبدع أو غيره) يقيم على أرض مصر، وتطالب بترحيله وتعمّم ذلك على كل الوافدين إلى مصر خصوصاً من العرب، عبر "هاشتاغات" ساذجة ومضحكة، وتسيء حقّاً إلى مصر ومركزيّتها وحجمها في الوقت الذي يتهافت فيه بعض فنّانيها (مصريون وعرب يعيشون في مصر) لتبجيل وتمجيد واختراع تاريخ ثقافي وفني لدولة ما زالت تتلمس طريقها في انفتاح فني لم يحمل سوى طابع الترفيه، من دون أي وجود لخطّة نهضة حقيقية مبنية على أسس تنويرية راسخة وأصيلة، وتحاول أن تلعب الدور الذي لعبته مصر ذات يوم في القرن الماضي، من دون توفر الشروط المناسبة والموضوعية لهذا الدور.