الإسرائيلي والأسابيع القليلة
من يصدق ادّعاءات إسرائيل بنظامها وإعلامها وساستها مشكلته أكبر بكثير ممن يعلم أن لا رادع أمام الاحتلال، وأن النفاق جزءٌ من مسار سياسي بُني بشكل خاص على قراءات نفسية واجتماعية للمجتمعات "العدوة". لندع جانباً إنذارات الإخلاء الليلية للمتحدّث بلسان جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، الممهدة لقصف الضاحية الجنوبية لبيروت، بما فيها من إشعار بالتفوق تجاه اللبنانيين، فقط من أجل فهم حقيقة أن "مهمتنا ستستمر أسابيع قليلة قبل أن ننتهي"، وفق تصريحات مصادر من الجيش الإسرائيلي أخيراً. ما الذي يعنيه إن الاحتلال سينتهي من مهمته اللبنانية خلال "أسابيع قليلة"؟ ما تعريف هذه الأسابيع وعددها؟ لا أحد يعلم. اعتاد الاحتلال التحدّث بهذه الضبابية، بما يشبه سلوكاً يومياً في مجتمعاتنا من قبيل "أراكم في العصر"، من دون تحديد التوقيت والساعة. مفهوم اللقاء في زمن العصر مطاطي للغاية، ويحمل في طياته فارقاً زمنياً من عدة ساعات. في الحالة الإسرائيلية "أسابيع قليلة" تعني أشهراً، ولم لا حتى الربيع المقبل، ريثما يكون الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب أو كامالا هاريس، قد رسخ حضوره في النظام الدولتي الأميركي؟
يعني ذلك، بما يحويه من معانٍ، أن إسرائيل توحي بإمساكها بالمبادرة، وأن الوقوف أمامها بطريقة دفاعية، باتت قضية خاسرة، فيما الهجوم غير المحسوب قد يزيد من أكلاف الدمار. إذاً، كيف سينتهي العدوان على لبنان؟ في المنطق، إن توجيه ضربة عسكرية مؤلمة لإسرائيل، قد يدفعها إلى التفاوض بشأن لبنان، بما يسمح بتطبيق قرار مجلس الأمن 1701، الذي وضع حدّاً للعدوان على لبنان في صيف 2006. أما في حال عدم حصول ذلك، فإن للاحتلال مصلحة في ترك الأوضاع كما هي حالياً في لبنان. الدمار في مناطق جنوبية وبقاعية وفي بيروت، أكبر مما يمكن تصوّره. الغارات اليومية لا تتوقف. أعداد المهجرين اللبنانيين ترتفع. وضع الاقتصاد يزداد سوءاً. الحلول السياسية غائبة، وأمراء الحروب اللبنانية يفكرون فقط في كيفية "قطف اللحظة". يدفع هذا الواقع إلى التدليل على مرحلة سيئة تنتظر المهجرين في الأساس واللبنانيين عموماً، فحواها أن العجز عن إعادة بناء جزء مما تهدم أو تشييد منشآت للإيواء قبل فصل الشتاء، سيجعل من المآسي اللبنانية فصلاً إضافياً في كتاب مخصص لهذه الغاية في الشرق الأوسط.
الأغرب أن مؤتمر فرنسا، الذي عُقد أمس الخميس، كان مخصّصاً فقط للنزوح، وليس للحلول السياسية. يعني ذلك أن "الأسابيع القليلة" ليست قليلة بالمفهوم الزمني، بل قد تكون كذلك في المفهوم السياسي الإسرائيلي، لتكريس حرية المبادرة في لبنان. اليوم أمام اللبنانيين حلول ضيقة، جميعها صعبة، سواء المتعلقة باحتمال نشر قوات أجنبية في لبنان، مساندة للجيش اللبناني ولقوة الأمم المتحدة المؤقتة "يونيفيل"، أو المرتبطة بما تريده إسرائيل لوقف النار، مثل حرية الحركة على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً التحليق الدائم في الأجواء اللبنانية لاستهداف من تشاء. الخياران سيئان، والبديل المنطقي وجود دولة، بالمعنى الفعلي للدولة، لا بمعنى حكم أمراء الحرب لها. ومثل هذه الدولة ولادتها على عجلة وفي "أسابيع قليلة" صعبة. ولهذا السبب طرح الغرب والعرب مسألة تسليم الدولة للجيش اللبناني، على اعتبار أنه الطرف الأكثر قدرة في النظام اللبناني على التماهي مع متطلبات الحاجة إلى بناء دولة فعلية، في مقابل عدم القبول بالشروط الإسرائيلية. صحيح أن معضلة أخرى قد تنشأ، بفعل أن المؤسسة العسكرية دائماً ما تكون مناقضة لمفاهيم الحريات والعمل السياسي، غير أنه في الحالة اللبنانية، مبدئياً، الجيش اللبناني لن يكون قادراً، حتى لو حاول، على التصرف بديكتاتورية، لتنوعه الطائفي من جهة، ولحجم الرهان الدولي عليه من جهة أخرى. كل ذلك لن يحل في "أسابيع قليلة"، بل ستكون أصعب فترة في تاريخ لبنان الكبير، منذ تأسيسه في عام 1920.