الإمبريالية الألمانية المنسية
نفضت حرب الإبادة، التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزّة، الغبارَ عن كثير مما يحفل به التاريخ الاستعماري للغرب. ومع الدعم غير المسبوق الذي تقدّمه ألمانيا لدولة الاحتلال في هذه الحرب، يعود سجلُّها الاستعماري الأسود إلى دائرة اهتمام الرأي العام العربي بعد أن أعلنت ناميبيا رفضها، مطلع العام الجاري، دعمَ ألمانيا دولة الاحتلال، في الدعوى التي رفعتها ضدّها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزّة.
أسهمت عوامل تاريخية في استبعاد الشعوب العربية ألمانيا من مشاعر عدائها التي خصّت بها القوى الاستعمارية الكبرى الثلاث (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة) عقوداً، ومنها التعاطف النسبي الذي حازته ألمانيا في المنطقة العربية، خصوصاً في المشرق إبّان الحرب العالمية الثانية، على اعتبار أنّها كانت تخوض الحرب ضدّ الحلفاء، وتحديداً بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تستعمران معظم البلاد العربية. يُضاف إلى ذلك ما ساقته وثائقُ تاريخيةٌ عن حلفٍ عربي ألماني كان قيد التشكّل بعد زيارة مفتي فلسطين الأسبق الحاج أمين الحسيني ألمانيا، ولقائه مع أدولف هتلر (1941)، واتفاقهما على مناهضة الحركة الصهيونية، التي كانت قد قطعت أشواطاً على درب اغتصاب فلسطين.
ورغم أنّ ألمانيا ظلّت دائماً حليفة لدولة الاحتلال، بسبب ما تعتبره مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية عما لحق باليهود خلال الحقبة النازية، وهو ما كان يحوز بعض ''التفهُّم'' من جانب الرأي العام العربي، إلا أنّ المقتلة المفتوحة في غزّة، منذ أكثر من ستة أشهر، قلبت المعادلة رأساً على عقب، بعد أن أصبحت ألمانيا أكثر إسرائيليةً من إسرائيل. فلم يقتصر الأمرُ على مَدّها بالأسلحة والذخائر، بل تعدّى ذلك إلى ممارسة مختلف أشكال التضييق الدبلوماسي والإعلامي على الصوت الفلسطيني في ألمانيا. جديدها، كان وقف الحكومة الألمانية أشغال ''مؤتمر فلسطين'' في برلين قبل أكثر من أسبوع، في انصياع سافر ومُخْزٍ للإملاءات الصهيونية.
يعيد هذا التطرّف الألماني، في الانتصار للسردية الإسرائيلية، إلى الواجهة الجانبَ المُظلم من التاريخ الألماني (الحديث والمعاصر)، الذي نجحت ألمانيا في تغييبه قبل 7 أكتوبر (2023)، بسبب توازن سياستها الخارجية، وحرصها على تقديم نفسِها نموذجاً للدولة الأوروبية الاجتماعية والديمقراطية المُغرية لملايين المهاجرين واللاجئين، الهاربين من البؤس والفقر والحروب. فصول هذا الجانب المُظلم من الإمبريالية الألمانية، لا تكاد الأجيال الجديدة في ألمانيا تعرف كثيراً عنها، ما أحدث وعياً مزيّفاً داخل قطاعات عريضة من المجتمع الألماني، مفادُه بأنّ ألمانيا، بوجهيها الديمقراطي والاجتماعي، ليس لديها ما تخجل منه، إذا ما استُثنِي مقطعُ الهولوكوست خلال الحقبة النازية.
لا تختلف هذه الإمبريالية، في وحشيّتها وتغوُّلها الاستعماري واستنزافها مقدرات البلدان التي احتلتها، عن الإمبرياليّتيْن البريطانية والفرنسية في هذا الصدد؛ فمع بداية القرن المنصرم، كانت ألمانيا القيصرية تحتلّ أجزاء واسعةً في جنوب القارّة الأفريقية وغربها، فضلاً عن جزرٍ في غرب المحيط الهادئ. وكان احتلالها ناميبيا، وارتكابها إبادةً جماعيةً (بين 1904 و1908) الفصل الأكثر وحشيّة في سجلّها الاستعماري المَنْسيّ، إذ راح ضحية تلك الإبادة عشرات الآلاف من السكّان المحلّلين. وفي السياق ذاته، وظّف الألمان العُلومَ، خاصة الطب والأنثروبولوجيا، في بحوث وتجاربَ كانت غايتها إثبات تفوّق العرق الأبيض على أعراق سكّان المُستعْمَرات الألمانية، وإضفاء الشرعية العلمية على ذلك. وساهم الفكر الفلسفي الألماني، خلال القرن التاسع عشر، في الانعطاف بالنزعة الاستعمارية الألمانية نحو آفاق أكثر عنصريّة وفوقيّة في التعاطي مع الأعراق الأخرى، من دون أن يكون الفلاسفة الألمان المعنيون قد قصدوا ذلك حين كتبوا ما كتبوه عن ''الروح الألمانية''، وغيرها.
لم تكن الحقبة النازية انحرافاً عن مسار التاريخ الألماني، بقدر ما كانت تعبيراً عن إخفاق الإمبريالية الألمانية في الحفاظ على مكاسبها الاستعمارية بعد أن خسرت في الحرب العالمية الأولى. واليوم، حين ترفع نيكاراغوا دعوى أمام محكمة العدلِ الدولية، تتّهم ألمانيا بمساعدة إسرائيل في ارتكاب إبادة جماعية في غزّة، فإنّ ذلك يشكّل مبعثاً لإعادة ألمانيا إلى مكانتها الطبيعية؛ دولةً تَجرّ خلفها إرثاً استعمارياً مُخجلاً.