الاستبداد في كرة القدم
على مرّ العصور، لم تكن الرياضة مجرّد وسيلة للترفيه واستعراض المواهب وتحسين اللياقة البدنية، بل كانت دائماً مكوّناً رئيساً في منظومة العلاقات المجتمعية، وجزءاً أصيلاً من السياق العام. وفي دول العالم الثالث، الأمر أبعد من ذلك، حيث الرياضة جزء من أدوات الحكم وأحد أشكال الممارسة السياسية.
وحين يتعلق الأمر بكرة القدم، أي بلعبةٍ شعبيةٍ يعشقها ملايين المواطنين المغلوب على أمرهم في تلك الدول الدكتاتورية، يأتي الجانب الرياضي في ذيل قائمة دوافع الحكومات المتسلطة للاهتمام بكرة القدم، فتحقيق الانتصارات وتحقيق التفوق الرياضي ليس إلا هدفاً مرحلياً لغايات أبعد وأهم في نظر الحكام والحكومات العالمثالثية. ولذلك، تكون دائماً النتائج والبطولات والانتصارات، وإنْ وهمية أو بوسائل غير مشروعة، أهم من الأداء واستيفاء متطلبات الازدهار والتقدم الحقيقي. وكما هو حال كل شيء في تلك الدول، تخضع إدارة كرة القدم لسيطرةٍ شبه كاملة. والحقيقة أن الكرة ليست استثناء من احتكار نظم الحكم وسيطرتها على كل مناحي الحياة ومختلف أنشطة المجتمع.
مع عودة النشاط الكروي في مصر قبل سنوات قليلة، استأنفت المؤسسات الرسمية إدارتها للكرة المصرية بعقلٍ ضيق الأفق قصير النظر، فراحت تتعامل مع كل مرحلة وكل مسابقة، بل كلّ مباراة، بمنطق القطعة قطعة، فلا تؤسّس منظومة، ولا تعالج اختلالات هيكلية قائمة ومعروفة من عقود.
خلال هذه الحقبة السوداء، خاضت مصر تصفيات كأس العالم لكرة القدم مرّتين، الأولى خاصة بالبطولة التي أقيمت في روسيا عام 2018، والثانية التي ستستضيفها قطر نهاية العام الجاري، وانتهت تصفياتها التأهيلية الأفريقية قبل أيام.
في المرّة الأولى، نجحت مصر في التأهل إلى المونديال، بينما تعثّرت في الثانية أمام منتخب السنغال. ورغم التأهل إلى نسخة روسيا 2018، إلا أن الوضع العام للكرة المصرية لم يكن أفضل مما هو حالياً. والشاهد هو النتائج المخيّبة التي وصلت إلى هزيمة برباعية من السعودية، وخروجٍ مهين.
تدير السلطة في مصر الرياضة، وبصفة خاصة كرة القدم، كما لو كانت استحقاقاً انتخابياً يستلزم حملة علاقات عامة للحشد والتعبئة. والهدف المباشر تحصيل نتيجة محدّدة، بغض النظر عن امتلاك مقوماتها أو تحضير مقدّماتها. أما الغاية النهائية فهي ترويج النظام القائم وتصوير الاستبداد أسلوباً مثالياً وناجحاً للإدارة والإنجاز والحياة عموماً، فضلاً عن إلهاء الشعب وشغله بالانتصارات الرياضية عن همومه الحياتية وأعباء المعيشة الناجمة عن سوء إدارة الاقتصاد.
وعلى الرغم من فشل هذا النمط من فرض السيطرة الحكومية على الرياضة، وهي مجال مجتمعي بالأساس، لا تمَلّ النظم الشمولية من تطبيقه مراراً وتكراراً. ويرجع ذلك بالأساس إلى افتقاد الموارد والقدرات اللازمة لتحقيق إصلاح حقيقي وبناء منظومة رياضية شاملة.
وفي حال توفرت المقوّمات، تحتاج تلك التحولات العميقة إلى صبر ومثابرة ووقت طويل لتؤتي أُكُلَها، فيما ليس لدى الاستبداديين صبر ولا تواضع ولا مراجعة للأخطاء، وإلا لاستوعب من يديرون الدولة المصرية دروس الماضي القريب، إن لم يكن البعيد.
وبسبب ضيق الأفق وانسداد العقل، لا يكتفي هؤلاء بارتكاب الأخطاء نفسها وإعادة إنتاج السياسات نفسها بالمثالب نفسها، وبالتالي تحصيل النتائج نفسها، أي نسخ جديدة من الإخفاقات ذاتها، بل يُزيفونها ويحاولون إقناع المصريين بأنّ الفشل إنجازٌ لم يكتمل. والأدهى عزو الفشل إلى تآمر الخصوم وأخطاء حكّام المباريات، وليس لسوء التخطيط واستبعاد الكفاءات وشُح الإمكانات وتدخلات العقول التسلطية.
الأسوأ من ذلك كله أنّ شيئاً لم يتغير على مدار عقود. فكرة القدم، والرياضة المصرية عموماً، كما هي على حالها بمشكلاتها وأسبابها وأبعادها ورجالها المسؤولين عنها. فقط اختلفت التفسيرات من الأمطار وسوء الملاعب وإرهاق السفر، إلى إزعاج اللاعبين بالليزر!