الاستجابة الإنسانية للأزمة في السودان ... التحدّيات والآفاق
عانى السودان، منذ سنين طويلة، من حلقات العنف المسلح المستمرّة، فكانت أزمة جنوب السودان وما صاحبها من صراع مرير انتهى بانفصال جنوب السودان دولة مستقلة، تلاه نزاع إقليم دارفور الذي ترك الكثير من المآسي والنزوح واللجوء، أعقبه تأسيس مليشيا الجنجويد التي تطورت لتصبح قوات الدعم السريع، كما لم يتم حل تحديات انتشار السلاح بين أيدي بعض الفصائل المسلحة في أنحاء متعددة من السودان، الأمر الذي جعل البلاد أكثر هشاشةً وعرضة لتكرار موجات العنف وعدم الاستقرار. ومع اندلاع الصراع المسلح في الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في منتصف الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) السودان يواجه حاليًا مجموعة مركّبة من الأزمات الإنسانية والاقتصادية والسياسية الحادّة، أدت إلى تعقيد الاستجابة الإنسانية، الأمر الذي يتطلب من المجتمع الدولي أن يستمرّ في تقديم الدعم الإنساني لتجنّب كارثة إنسانية كبرى.
يجادل هذا المقال بأن هناك ضرورة عاجلة لصياغة خطط استجابة إنسانية من كل الفاعلين الدوليين والإقليميين على المديين، القصير والمتوسط، لتحقيق الاستقرار الدائم وفق الرابطة الثلاثية أو نهج الإنسانية والتنمية والسلام من أجل تجاوز انحسار الفضاء الإنساني في البلاد. يستكشف المقال التحدّيات التي تواجه العمل الإنساني في البلاد، ويقترح خطوات ضرورية للاستجابة الإنسانية التي يمكن أن تساهم في تجاوز الأزمة.
تحدّيات تواجه السودان
يكافح السودان اليوم مجموعة واسعة من التحدّيات المعقدة والمتشابكة، يمكن تصنيفها على نطاقٍ واسع إلى تحدّياتٍ في مجالات العمل الإنساني، والتنمية الاقتصادية، والأمن، والسلام. أولًا، ترتّب على اندلاع الصراع في الخرطوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تدهور خطير في الظروف الإنسانية المتدهورة أصلًا، حيث تواجه البلاد خطر انعدام الأمن الغذائي وصعوبة الوصول إلى خدمات النقل والاتصالات والكهرباء، والنقص الكبير في الماء والوقود، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل كبير. وفي وقتٍ يحتاج فيه السودانيون إلى المساعدة الإنسانية نتيجة الأزمات الممتدة منذ أكثر من عقدين، شهد العمل الإنساني خلال الأزمة الحالية انحسارًا جلياً بسبب تعرّض المستودعات والمكاتب المخصّصة للعمل الإنساني للنهب والسلب وصعوبة الوصول إلى بعض المناطق. وقد أدّت السنوات الطويلة من عدم الاستقرار في السودان إلى تدنّي مستويات الحالة المعيشية للسكان، حيث يحتاج حوالي 80% من السكان للمساعدة الإنسانية نتيجة الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، كما يواجه أكثر 15 مليون شخص مستوياتٍ طارئة من انعدام الأمن الغذائي. وعلى صعيد أزمة اللجوء والنزوح، من المتوقّع أن يصل عدد اللاجئين إلى الدول المجاورة نتيجة الأزمة الحالية إلى حوالي 800 ألف شخص، بما في ذلك إلى تشاد، حيث لجأ نحو 20 ألف سوداني إليها، كما لجأ آخرون إلى جمهورية أفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا وليبيا وجنوب السودان. يلاحظ أن هذه المجتمعات المضيفة تعاني أصلًا من هشاشةٍ بنيويةٍ نتيجة تغيرات المناخ، ناهيك عن استمرار الصراع فيها، ما يزيد من حدّة الأزمة الإنسانية في السودان وامتدادها إلى الدول المجاورة.
معالجة التحدّيات الإنسانية والإنمائية وتحدّيات السلام والأمن من خلال القدرات السودانية لن تكون كافية في الوقت الحالي لتفادي الانزلاق إلى كارثة إنسانية
ثانيًا، يهدّد الصراع الحالي في السودان مكاسب التنمية نتيجة تراجع وسائل الإنتاج للموارد الاقتصادية والإنمائية التي كانت تعتمد، بشكل أساسي، على التمويلات الأجنبية. وقد أدّى تعليق المعونات من المانحين الدوليين، بعد سيطرة قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان على السلطة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، إلى تراجع فرص التنمية بشكل كبير، حيث تم تجميد أكثر من 500 مليون دولار مخصّصة لدعم الميزانية من البنك الدولي و150 مليون دولار في حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي التي كانت موجّهة إلى السودان. وسابقًا، أدّت مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون إلى تخفيض ديون السودان الخارجية من 77.2 مليار دولار في عام 2020 إلى 62.4 مليار دولار في عام 2021، إلا أن استمرار عدم الاستقرار السياسي عطّل نتائج هذه المبادرة، كما جرى تعليق التفاوض مع دول أعضاء نادي باريس في نهاية عام 2021. ويظلّ الأمر الأكثر إلحاحًا أن تراجع التنمية وتدهور الاقتصاد يحدُث في واحدة من أكثر الدول فقرًا. وفقًا للتقارير المتاحة، هناك حوالي أكثر من نصف السكان في السودان يعيشون حاليًا تحت خط الفقر، وقد حذّرت الأمم المتحدة من العواقب قصيرة المدى على التنمية في السودان، وأنها ستكون وخيمةً على السكان، إذا ما استمر الصراع.
ثالثًا، تواجه السودان مجموعة من التحدّيات الأمنية الصعبة. أدّى اندلاع القتال إلى زعزعة أمن المدنيين واستقرارهم، حيث قُتل مئات الأشخاص، وفر آلافٌ في أقل من شهر منذ بداية الأزمة. وقد كان أحد أبرز التداعيات الأمنية تجميد منظمّات الأمم المتحدة كل عمليات الاستجابة الإنسانية في المنطقة، بما في ذلك انسحاب عديد من الممثلين الدبلوماسيين وخروجهم من الخرطوم. تقف السودان، في الوقت الحالي، على مفترق طرق صعب، مع استمرار الدعوات والمطالب بسحب السلاح والجلوس إلى طاولة المفاوضات، من أجل توفير الأمن وحماية المدنيين. وبالتالي، يهدّد استمرار القتال بين الطرفين وانعدام الأمن بتفاقم أزمتي اللجوء والنزوح واستمرارها على المدى الطويل في بلدٍ كان يعاني ثلث سكّانه من أوضاع إنسانية صعبة، حتى قبل اندلاع موجة العنف الحالية. إضافة إلى ما سبق، سيكون أحد تداعيات الصراع الحالي تفاقم أزمة الثقة بين الشعب السوداني والقوى المسلحة المشتبكة حاليًا، نظرًا إلى السياق السياسي الذي تمرّ به السودان، والمتمثل في تعثر مراحل الانتقال الديمقراطي في البلاد. ففي حين خرجت التظاهرات ضد الحكومة الحالية بسبب عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي، يُنذر اندلاع العنف الراهن بمزيد من التظاهرات على المدى المتوسط. ومع استمرار الصراع، من المتوقع انخفاض مستويات الدخل، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية وتفاقم البطالة، وتوقف المعونة. هناك مخاوفُ أيضًا من عدم الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي وزيادة المعاناة في مجتمعات اللجوء في الدول المجاورة، وزيادة أنشطة العنف خارج مراكزها الرئيسة الحالية، ما ينذر بتدهور الأوضاع الإنسانية والتنموية الناتجة من غياب الأمن.
يشهد السودان، نتيجة استمرار الصراع، تقلصا للحيز الإنساني، في ضوء مخاوف شديدة من انزلاق البلاد إلى حرب أهلية ممتدّة ستكون تداعياتها الإنسانية شديدة الوطأة على المدنيين
رابعًا وأخيراً، تواجه السودان التحدّي الذي لم يتم حله، والمتمثل في التوصل إلى تسوية سياسية شاملة وتهيئة الظروف لتحقيق السلام الدائم والانتقال الديمقراطي والمصالحة الوطنية. لم تتوصل السودان بعد إلى صيغة حل سياسي يمهد لانتقال ديمقراطي سلس، ومشاركة المدنيين في السلطة، ومما زاد الطين بلة تفجّر الصراع المسلح، ثم تعثر المساعي الحميدة أكثر من مرة لوقف الصراع. ومما تجدر الإشارة إليه، أن معالجة هذه التحدّيات الإنسانية والإنمائية وتحدّيات السلام والأمن من خلال القدرات السودانية لن تكون كافية في الوقت الحالي لتفادي الانزلاق إلى كارثة إنسانية.
عقب تفجر الصراع في الوقت الحالي، قدّر عدد القتلى، وفقًا لمصادر إعلامية، بنحو 479 باإضافة إلى 2518 مصابا. لذا، وعلى الرغم من تشكيك أطرافٍ عديدة بنتائج المساعي الحميدة الحالية على المديين، القصير والمتوسط، هناك واجب والتزام أخلاقي من المجتمع الدولي لتكثيف الجهود الدبلوماسية والإنسانية بهدف التوصل إلى وقف العنف، والانخراط في تسوية سياسية تجمع كل الأطراف السودانيين. وبدلاً من اعتبار التدخل الدبلوماسي عملية قصيرة المدى، هدفها وقف القتال فقط وفتح الممرّات الإنسانية، على الرغم من ضرورتها لإنقاذ أرواح المدنيين وحمايتها، فإننا ننظر إلى عملية السلام على أنها شاملة ومتكاملة متعدّدة السنوات. وفيما يلي مجموعة من الخطوات الضرورية للاستجابة للأزمة الإنسانية التي نعتقد أن أخذ الأطراف الثالثة لها في عين الاعتبار يساهم في تجاوز الأزمة الحالية.
خطوات ضرورية للاستجابة للأزمة الإنسانية
يشهد السودان، نتيجة استمرار الصراع، تقلصا للحيز الإنساني، في ضوء مخاوف شديدة من انزلاق البلاد إلى حرب أهلية ممتدّة ستكون تداعياتها الإنسانية شديدة الوطأة على المدنيين. ولتهدئة الأوضاع، انخرطت مجموعة من الأطراف الثالثة الدولية والإقليمية، منذ بداية الأزمة في 15 أبريل/ نيسان، في مساعٍ دبلوماسية للتوصل إلى تسويةٍ تفاوضيةٍ لمنع تدحرج دائرة العنف وامتدادها. دعم المجتمع الدولي مبادرة الوساطة السعودية الأميركية في الرياض مع ممثلين آخرين من المجتمع الدولي، والتي جمعت أطراف النزاع على طاولة المفاوضات. وناقشت، في البداية، وقف إطلاق النار مع دعم الجهود الإنسانية. ومع ذلك، نرى أن مساعي الأطراف الثالثة في الفترة السابقة قد ركّزت على إتاحة الخدمات الإنسانية وضمان قدر من الحيز الإنساني، وهو مطلوب جدًا في هذه الأوقات، ولكن هناك خطوات ضرورية لنجاح المساعي الدبلوماسية والإنسانية من أجل عودة الأمن والاستقرار في البلاد، على المجتمع الدولي أخذها في الحسبان للاستجابة للأزمة الحالية:
أولًا، إطلاق عملية مصالحة وطنية يقودها ويملكها السودانيون، وعلى المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات أوسع لمعالجة فقدان الثقة بين طرفي النزاع. يمكن أن يتم ذلك، من خلال دعم أطراف الصراع، وجميع الأطراف السودانية من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، والقوى الاجتماعية والدينية والقبائل، في عمليةٍ طويلة الأمد من العمل التعاوني المدعوم بواسطة وسطاء ميسّرين، للخروج بخريطة طريق يملكها السودانيون، ومدعومة من المجتمع الدولي والإقليمي.
ثانيًا، هناك نقص في التركيز على موضوع "الإجراءات الوقائية لمنع النزاعات" في السودان، سيما من المجتمع الدولي والإقليمي الذي يمكنه القيام بخطواتٍ كثيرة في هذا الصدد. رغم أن الانقسام بين القوات المسلحة كان متوقعًا منذ أحداث أكتوبر 2021، إلا أن ردود الأفعال من المجتمع الدولي لم تكن جدّية. بناءً عليه، يجب التركيز على بناء و/ أو تعزيز النظام البيئي المرتبط بالتدابير الوقائية الخاصة بالوقاية من الصراع، والتي من شأنها منع امتداد رقعة العنف إلى أماكن أخرى، والاستمرار في الحوار الوطني، وهو ما يمكن أن يسهّل من عمليات الاستجابة الإنسانية في البلاد.
الحاجة ماسّة إلى استئناف المساعدات من خلال خطط عمل مشتركة وشبكة تنسيق بين المانحين الدوليين
ثالثًا، بدلاً من طرح نماذج الاستجابة التي تركّز على الجانب الإغاثي فقط في السودان، هناك ضرورة الاستمرار في التركيز على تقاطعات التحدّيات الإنسانية والإنمائية وتحدّيات السلام. توفر الصلة بين العمل الإنساني والتنمية والسلام إطارًا قويًا للمضي في نهج أكثر تكاملاً يتجاوز الصوامع التقليدية لنظام المساعدات الدولية في الاستجابة للأزمة السودانية، بما في ذلك تعزيز إجراءات الدبلوماسية الإنسانية.
رابعًا، فيما يتعلق بالمساعي الدبلوماسية الحالية لوقف العنف في السودان، من الضروري على الأطراف الثالثة تجنّب نموذج "الطفل الصغير الذي يسدّ الثقب بإصبعه لترويض الصراع"، والبدء في لعب دور حيوي، كقوة تجمع ووسيط معرفة، والقيام بتعزيز الحوار المحلي والدولي حول كيفية تكييف مفاهيم الرابطة الثلاثية والاقتراب إلى المناطق المجهولة والنقاط العمياء في بيئة التشغيل سريعة التطور والصعوبة في السودان.
أخيرًا، ستتطلب الاستجابة الإنسانية لتلبية الاحتياجات الإنسانية والإنمائية على نطاق واسع أشكالًا مبتكرة من التمويل للإغاثة والتنمية والسلام لمعالجة الأزمات متعدّدة الأبعاد ومنع تكرار موجات العنف. على سبيل المثال، لدعم استجابة إنسانية أكثر فاعلية، يجب الاستمرار في دعم مشاريع التنمية وبناء السلام في كل أنحاء السودان، بما في ذلك استمرار مشاريع الدعم والصمود للسودانيين. ومع تراجع المساعدات الخارجية، على الأرجح، بين معظم المانحين الرئيسيين، هناك حاجة ماسّة إلى استئناف هذه المساعدات، على أن يتم ذلك من خلال خطط عمل مشتركة وشبكة تنسيق بين المانحين الدوليين، تكون مبتكرة وقائمة على الشفافية والمساءلة وبمشاركة السوادنيين، مع الحفاظ على تقديم الخدمات العامة الأساسية لجميع المواطنين السودانيين في مجالاتٍ حيويةٍ مثل الكهرباء، والمياه، والخدمات الصحية، والتعليم. هذه الخطوات جميعها يمكن أن تشكل بداية للوقاية من أي صراعاتٍ مستقبليةٍ في السودان.