الاعتداء على جنين والرد الفلسطيني
شنت قوات الاحتلال الصهيونيّ عدوانًا همجيًا مكثفًا على مخيم جنين منذ فجر الاثنين الماضي، تحت ذريعة تقويض بنية المقاومة الفلسطينيّة الصاعدة في المخيم، إذ يدّعي الاحتلال أنّ المخيم كان منطلقًا لأكثر من 50 هجومًا، شنته المقاومة الفلسطينيّة الصاعدة على أهدافٍ صهيونيّةٍ، منذ مطلع العام الحالي فقط. يحيلنا التصعيد الصهيوني إلى جملةٍ من القضايا المرتبطة، مثل أهداف الاعتداء وطبيعته ومدته وحيثياته، وبكل تأكيد طبيعة الرد الفلسطينيّ وشكله وتوقيته.
نلحظ من التدقيق في سياسات الاحتلال الأمنيّة في الضفّة الغربيّة عامةً، ومخيم جنين خاصةً، أنّ الاعتداء الصهيونيّ على المخيم قد بدأ قبل أشهر عديدةٍ، تخللها استخدام الاحتلال استراتيجياتٍ عسكريّة مختلفة، منها الحصار والعمليات الخاطفة وهدم المنازل والاعتقالات العشوائيّة والنوعيّة، والاغتيالات وحماية اعتداءات جيش/ عصابات المستوطنين المتكرّرة، وقصف الطائرات الحربيّة والمسيّرة، وغيرها من الوسائل التي لم تتوقف منذ مدّةٍ طويلةٍ، أقلّها منذ بداية العام الحاليّ، كما يمكن اعتبارها امتدادًا للعمليّة التي أطلق عليها الاحتلال اسم "كاسر الأمواج" في مارس/ آذار الماضي.
إذاً، نحن أمام اعتداءٍ متواصلٍ ومستمرٍ بوتيرةٍ متباينةٍ وفق مخطّطات الاحتلال، تتصاعد حينًا وتخفت حينًا، لكنها ماضيةٌ من دون توقفٍ حقيقيٍ، وهو ما يفسّر توقف الاعتداء الصهيونيّ المكثف على جنين بعد قرابة اليومين، ما يؤشّر إلى انتقال اعتداء الاحتلال على مخيم جنين إلى نسقٍ أقلّ كثافةً، في حين قد تشهد مدنٌ فلسطينيةٌ أخرى اعتداء مكثفًا في المدى المنظور. إذ يسعى الاحتلال إلى الحدّ من تأثيرات إطالة الاعتداء المكثف السلبية على الاحتلال، مثل أسطرة المقاومة الصاعدة في المخيم، بحكم قدرتها على مجابهة جيش الاحتلال المدجّج بأحدث الأسلحة والآليات والتقنيّات المتطوّرة، والحدّ من تأثير الإعلامين، البديل والتقليديّ، اللذين ينشطان في ظلّ الاعتداءات الصهيونيّة المكثفة، الأمر الذي ينقل جرائم الاحتلال ضدّ الإنسانيّة إلى العالم أجمع، من العقاب الجماعيّ، إلى قتل الأطفال والمدنيّين، والاعتداء على الطواقم الطبيّة والإعلاميّة، كما يحدّ ذلك من احتماليّة تعدد مناطق اشتباك الاحتلال مع الفلسطينيّين.
يخشى الاحتلال احتماليّة تمدّد نموذج المقاومة الصاعدة أفقيًّا وعموديًّا، أي داخل مخيم جنين وخارجه
أما أهداف الاعتداءات الصهيونية المتكرّرة؛ وجديدها أخيرا الاعتداء المكثّف الحاليّ، فيمكن تلخيصها في ثلاثة رئيسيّةٍ، توضح كذلك طبيعة هذه الاعتداءات: أولاً، عقاب مخيم جنين وساكنيه جماعيًّا على تصاعد فعاليات النضال التحرري من أزقته في الفترة الماضيّة، وهو إحدى أهمّ أدوات الاحتلال في مواجهة النضال التحرريّ دائمًا، رغم فشل هذه الأداة في تقويض النضال التحرري، لكنها الأداة الوحيدة التي يتقنها الاحتلال، نتيجة طبيعته الإحلاليّة والكولونياليّة والعنصريّة، فهي أداةٌ منسجمةٌ مع سعيه إلى تطهير سكان فلسطين الأصليّين عرقيًّا، أو على الأقلّ تهجيرهم قسريًّا.
من العقاب الجماعيّ ننتقل إلى الهدف الصهيونيّ الثاني، والمتمثّل في إنهاء دور جنين حاضنةً للنضال التحرري الفلسطيني، وفي تدمير بنية المقاومة التحتيّة، إذ يخشى الاحتلال احتماليّة تمدّد نموذج المقاومة الصاعدة أفقيًّا وعموديًّا، أي داخل مخيم جنين وخارجه، لتطاول مناطق جديدةً، وتتوسع نواتها العسكريّة وتتطوّر، الأمر الذي يدفع الاحتلال نحو تصعيد اعتداءاته للحيلولة دون حصول ذلك. يتضح ثالث الأهداف في رسالة آفي بْلوط، قائد فرقة الضفّة الغربيّة في جيش الاحتلال، التي وجهها إلى القوات المشاركة في الاعتداء الحالي على مخيم جنين، إذ قال: "ما نريده من الهجوم هو أن يخرج مخيم جنين ضعيفًا وممزّقًا". بناء عليه، يسعى الاحتلال إلى تمزيق المخيم، الذي صعب على الاحتلال التعامل معه أمنيًّا تاريخيًّا، نتيجة كثافته السكانيّة وصغر مساحته، وضيق أزقته وشوارعه، وتراصّ أبنيته، وهو ما يحاول الاحتلال تداركه اليوم، مستعينًا بوسائل عسكريّةٍ حديثةٍ، تسهل على قواته اقتحام المخيم وتدميره، خصوصًا عبر الطائرات المسيّرة، التي ترصد أيّ حركةٍ في المخيم، كما يسهل عبرها استهداف الفدائيّين دون الحاجة إلى اقتحام كلّ المخيم، وهو ما يفسّر إصرار الاحتلال على تدمير قسمٍ كبيرٍ من المخيم وشوارعه، وربّما يفسر كذلك محاولته تهجير بعض سكان المخيم قسريًّا.
أما عن الرد الفلسطينيّ، الذي يتصاعد الحديث عنه إعلاميًّا وفصائليًّا بعد كلّ اعتداءٍ صهيونيٍّ مكثفٍ، كما حصل في مخيم جنين، فهنا يعتقد الكاتب أنّ هناك ضرورةً وطنيّةً تقتضي الكفّ عن هذا الربط الميكانيكي، الذي لا يخلو من مفهوم الثأر، ويمنح الاحتلال القدرة على التحكّم في مسار النضال التحرريّ وتوقيته وربّما مكانه، ما يفقد النضال التحرري عناصر مهمةً، مثل المباغتة والإعداد والتنظيم المسبق.
ربّما تحتاج الفصائل المقاومة إلى تبنّي خطاب جديد، لا يستند إلى ربط الفعل النضالي أو التحرري باعتداءات الاحتلال اليومية
إذ ربّما تحتاج الفصائل المقاومة إلى تبنّي خطابٍ جديدٍ، لا يستند إلى ربط الفعل النضاليّ أو التحرريّ باعتداءات الاحتلال اليوميّة، ويدعو الفلسطينيّين إلى التصدّي لها كلٌّ بمكانه وقدراته الذاتيّة، فمعركة التصدّي للاحتلال جماعيّةٌ يمكن لكلٍّ منا المساهمة بها من موقعه، ولو إعلاميًّا داخل فلسطين وخارجها، إذ يساهم تعدّد مناطق الاشتباك وأنواعه؛ حتّى السلمية، في تشتيت قوات الاحتلال، وبعثرة مخطّطاته، وهو ما يحمي المقاومة وحاضنتها وبنيتها التحتيّة. لذا كانت لدعوة "عرين الأسود" إلى التظاهر نصرةً لمخيّم جنين أهمّيةٌ كبرى للتصدّي للاعتداء الصهيونيّ المكثف على المخيّم، كما يمكن لديمومة هذه التظاهرات، أو استمراريتها ودوريّتها المساهمة في إفشال مخطّطات الاحتلال بعيدة المدى تجاه مدن الضفّة الغربيّة عامةً، ومخيّم جنين خاصةً.
أما النضال العنيف أو المسلّح، فيتطلّب كذلك نهجًا جديدًا ومغايرًا قليلاً للسائد اليوم، فحالة فلسطين المحتلة؛ كامل فلسطين، غير مواتيةٍ للعمل العسكريّ التقليديّ، القائم على الاشتباك المباشر، أو على الحرب عن بعدٍ عبر التقنيّات العسكريّة المتطوّرة، إذ لا يملك الفلسطينيّون التقنيّات الكافية للاشتباك غير المباشر، كما يصعُب عليهم خوض اشتباكٍ مباشرٍ طويل الأمد في ظلّ الواقع الميدانيّ المقسَّم والمجزَّأ، فضلاً عن دور السلطة الأمنيّ، وتراجع؛ شبه انعدام، الدعم الإقليمي والدولي للنضال التحرريّ الفلسطيني. ونظرًا كذلك إلى الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني، أو للصراع الفلسطيني الداخلي على سلطةٍ وهميّةٍ في كلٍّ من الضفّة وغزّة.
بناء عليه، يعتقد الكاتب أنّنا بحاجةٍ إلى استلهام دروس العمليات الفرديّة، التي أسماها الاحتلال "الذئاب المنفردة"، التي نجحت في تقويض قدرات الاحتلال على ضرب كلٍّ من بنية المقاومة التحتيّة وحاضنتها الشعبيّة، لتنحصر قدرة الاحتلال على تقويض هذه الظاهرة في تعويله على مبدئه الإجراميّ "العقاب الجماعيّ" فقط، لكن لا بدّ من تطوير تجربة العمليات الفرديّة، عبر مزيدٍ من التنظيم والتخطيط والإعداد الممنهج، الذي يؤدّي إلى ضرب قوات الاحتلال بأكبر قوّةٍ وأقلّ تكلفةٍ ممكنةٍ، عبر خلايا صغيرةٍ منفصلةٍ ومبعثرةٍ، وربّما عشوائيّة التكوين، وذات تموضعٍ جغرافيٍّ متغيرٍ دومًا.